أسامة مصالحة

يثير تقدم بعض المواطنين السوريين، الفارين من جحيم الحرب الدائرة، بطلبات لجوء إلى اليابان، الدهشة والأسئلة معاً. فلم تكن اليابان يوماً قبلةً للمهاجرين من الشرق العربي، ذلك أنها غالباً ما تتراءى، في المخيال التقليدي العربي، بوصفها جزيرة بعيدة نائية، كثيفة السكان، مكتفية بنفسها، منطوية على ذاتها، تضربها الزلازل من حين لآخر ويحاصرها الخوف من أمواج التسونامي العاتية والمرعبة. ولا تزال صور مأساة مفاعل فوكوشيما حاضرة في الأذهان والعقول.

غير أن لليابان صورة ذهنية أخرى وهي تلك التي تتبدى فيها بوصفها مكاناً ساحراً، مدهشاً ومزدهراً، تظلله أشجار الكرز، وتتخلله الأرخبيلات، «يقيم في المستقبل»، ويجري كل شيء فيه على وقع دقات ساعة تختلف عن تلك التي تضبط إيقاع الزمن الكوني المعروف.

عدد المتقدمين بطلبات لجوء، من الجنسية السورية، يتجاوز الآلاف، غير أن عدد الذين تقوم الدولة اليابانية بمنحهم حق اللجوء بالكاد يصل للعشرات. وهو الأمر الذي يثير نقاشاً في داخل اليابان وخارجها على حد سواء.

في داخل اليابان، يتم النظر إلى الموضوع من زوايا متعددة ومختلفة، بل متضادة أحياناً. فوجهة النظر الرسمية، كما عبر عنها رئيس الوزراء شينزو آبي، تقول إنه من الأولى على اليابان أن تولي عنايتها بمواطنيها من النساء وكبار السن أولاً.

وحتى يعوض عن موقفه ذاك، الذي يواصل إغلاق الباب أمام اللاجئين بإحكام، تعهد آبي بتقديم مبلغ 2.8 مليار دولار لمساعدة اللاجئين والدول الحاضنة لهم على مدى السنوات الثلاث المقبلة. وفي بادرة أراد فيها أن يكشف عن حسن نواياه، أعلن عن مبادرة يابانية من أجل مستقبل اللاجئين السوريين تغطي نفقات تعليم 150 طالباً سورياً، من حملة الشهادات الجامعية، وذلك بهدف «إعادة بناء سورية» في المستقبل.

على الجانب الآخر من النقاش، ترتفع أصوات الجمعيات الأهلية التي تطالب بفتح الأبواب واسعاً أمام اللاجئين. من بين تلك الأصوات، صوت هيدن أوري ساكناكا، المدير السابق لمكتب طوكيو للهجرة والمدير الحالي لمؤسسة سياسات الهجرة الياباني. يحاجج ساكناكا قائلاً: «إن على اليابان أن تقبل باحتضان ما يقارب عشرة ملايين مهاجر خلال الخمسين عاماً المقبلة، نصف مليون منهم من اللاجئين». حاجة اليابان إلى ذلك العدد الضخم من اللاجئين، على ما يبدو، تتأتى من حقيقة أن المجتمع الياباني «مجتمع هرم» يواجه مصيراً ديموغرافياً مبهماً، ترتفع نسبة المعمرين فيه وتتراجع معدلات الخصوبة سنة إثر سنة.

في استطلاع للرأي العام حول تلك المسألة، أجرته مؤسسة أيبسوس موري، تبين أن 46 في المئة من المستطلعة آراؤهم من اليابانيين يعتقدون أن عملية اندماج اللاجئين في المجتمع الياباني ستبوء بالفشل، بينما عبر 18 في المئة منهم عن أن عملية الاندماج سوف تتكلل بالنجاح.

وعلى رغم أن اليابان من الدول التي وقعت على اتفاقية الأمم المتحدة حول اللاجئين سنة 1981، فإنها لا تمنح حق اللجوء في شكل أوتوماتيكي لأولئك الذين تعصف ببلادهم الحرب، بل يحتاج اللاجئ إلى أن يثبت بالأدلة، وفي شكل قاطع لا يدانيه شك، تعرضه شخصياً للاضطهاد وتعرض حياته للتهديد، على أرضية نشاطاته السياسية.

لكن السوريين لا يحتلون رأس قائمة المتقدمين بطلبات لجوء إلى اليابان، فوفقاً لوزارة العدل اليابانية، يتصدر الفيلبينيون والفيتناميون رأس القائمة. وعلى سبيل المثال، كان عدد طالبي اللجوء، في 2017، يقارب الـ20 ألفاً، من 82 دولة. ولم تمنح الدولة اليابانية حق اللجوء إلا لـ20 شخصاً منهم فقط، كان معظمهم من سورية ومصر وأفغانستان. إلى جانب ذلك، لم تُمنح حق الإقامة، لأسباب إنسانية، إلا لـ45 فرداً كان معظمهم من سورية والعراق وميانمار.

ومع تصاعد التوتر مع كوريا الشمالية، بسبب سياساتها العدائية تجاه اليابان، تطرح قضية اللاجئين نفسها من منظور آخر يوظفه شينزو آبي لتسويق سياساته المحافظة حيال قضية اللاجئين، حيث أشار أمام البرلمان إلى أن «اليابان تُجهز نفسها لحالات تستدعي أن تقدم الحماية أو إجلاء رعاياها المقيمين في شبه الجزيرة الكورية إذا ما وصلت الأزمة مع كوريا الشمالية إلى ذروتها».
بديهي أن موقف آبي هذا يندرج في سياق تبرير موقفه الرافض لاستقبال أعداد أكبر من اللاجئين، ولكن لا يمكن نفي أنه ينطوي على قلق من أن تتطور الأزمة مع كوريا الشمالية إلى نقطة اللاعودة، حيث تكون اليابان بإزاء أعباء وتكاليف استقبال أعداد من اللاجئين من شبه الجزيرة الكورية.

وعلى رغم عدم شيوع أي شكل من أشكال الإسلاموفوبيا في اليابان فأن شبح الخوف من الإرهاب الراديكالي الديني لا يزال ماثلاً في الذهن الياباني، وتحديداً منذ أن قامت داعش بإعدام مواطنين يابانيين في العراق. لهذا يخشى اليابانيون من تعرضهم إلى هجمات شبيهة بتلك التي ضربت أوروبا الغربية بعد استقبالها لأعداد كبيرة من اللاجئين المخترَقين من طرف بعض العناصر الإجرامية المتطرفة.

وفوق ذلك، وبغض النظر عن مدى صوابية موقف آبي من قضية اللاجئين عموماً، والسوريين منهم خصوصاً، فإن المجتمع الياباني، في عمومه، ينزع، على رغم انفتاحه على التعدد الثقافي والديني، إلى التعامل بحذر مع الغرباء، وذلك نتيجة موروث تاريخي وسياسي قديم. فلا يجب أن يغيب عن البال أن نسبة اليابانيين، من أصول أجنبية، لا يتجاوز الـ2 في المئة من عموم السكان. هذا ناهيك عن أن اليابان ظلت ما يناهز القرون الثلاثة، في ما عُرف بحقبة العزلة (ساكوكو)، تعيش حالة انغلاق وعزلة شبه مطلقة عن العالم الخارجي قبيل مجيء «إصلاح الميجي».

لم تعرف اليابان خروجاً كبيراً أو نزوحاً جماعياً للسكان أو لجوءاً ذا قيمة حتى إثر تعرضها لدمار شامل وتحول معظم مدنها إلى أثر بعد عين بعيد الحرب العالمية الثانية. بل قامت، كطائر الفينيق الخرافي، من رمادها لتقود سرب الدول الأكثر تطوراً وتحضراً في العالم الحديث. لقد لخصت تلك «القيامة» روح اليابان وشخصيتها وحكمتها معاً. فهل يستطيع اللاجئون، الذين يشكل السوريون، والعرب عموماً، غالبيتهم الساحقة، سبر تلك الروح، وتشريح تلك الشخصية واستلهام تلك الحكمة؟