حازم صاغية

 - العنف الوحشيّ لنظام بشّار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيّين وميليشياتهم اللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة... وحدها صور الغوطة (حتّى لو نسينا كلّ ما سبقها) تقطع بذلك.

- خليط الوضعين الإقليميّ والدوليّ الذي تراوح بين الانتهازيّة والعزوف والتوريط والتواطؤ، وأخيراً الاحتلال المباشر على أيدي الأتراك. وحده غزو عفرين الأخير (حتّى لو نسينا كلّ ما سبقه) يقطع بذلك.

- سوء حظّ الثورة الذي جعلها تدفع أكلاف غيرها، أي ربطها بتلك الخلفيّة التي تمتدّ ممّا آل إليه العراق بعد حرب 2003 وصولاً إلى ليبيا والتدخّل الأطلسيّ الجزئيّ فيها.

لكنّ العدوّ الأشرس والأعنف، والذي شكّل البيئة الحاضنة لعمل الأعداء الآخرين، هو المجتمع السوريّ نفسه بوصفه مجتمع الهويّات الكثيرة– هويّات الحدّ الأقصى المتناحرة في ما بينها: مرّةً بصمت ومرّةً بضجيج. مرّةً بأسمائها المباشرة ومرّةً من خلال يافطات أيديولوجيّة– عروبيّة وإسلاميّة وكرديّة– عابرة للحدود.

كلّ شيء كان يصنع هذه الهويّات النافية لسواها بجهد لا يكلّ. النظام كان الصانع الأوّل الذي يفاقمها ويكرّسها ويتيح لها النموّ المحتقن في الخفاء. الأحقاد الموروثة عن نظام القرابة الموسّع. الثقافة الأهليّة بالدينيّ فيها وغير الدينيّ. الأيديولوجيّات النضاليّة الحديثة التي كانت تعيد إنتاجها بأسماء وشعارات أخرى.

لهذا الواقع المسكون بالعطل العميق، تصدّى شبّان الثورة في عاميها الأوّلين. نساء»التنسيقيّات» ورجالها. شجعان وأحرار كسميرة الخليل ورزان زيتونة ورفاقهما ورفيقاتهما الكثيرين. سعوا وراء هويّة وطنيّة تنهض على الحرّيّة وتغتني بهويّاتها الصغرى. حاولوا بأفكارهم وحاولوا بحياتهم نفسها. هؤلاء ما كان يمكن إلاّ أن يكونوا الطرف الأضعف وسط تلك الهويّات.

فمن أين تأتي قوّة الوعي البديل الآخر؟ النظام ضدّها. القرابة ضدّها. الثقافة السائدة ضدّها. التأويل الدينيّ الرائج ضدّها. مستودعات الكراهية بين الجماعات ضدّها.

هذا ليس وعياً تطهّريّاً أو اختزاليّاً في ما خصّ الهويّة: صراع الهويّات ليس بالضرورة، ودائماً، عادماً لكلّ حقّ. حرب الهوتو والتوتسي في رواندا وبوروندي، وحرب الصرب والمسلمين في البوسنة، كانتا حربي هويّة. مع ذلك، يمكن أن نتبيّن فيهما درجة من الحقّ هنا ودرجة من الباطل هناك.

لكنّ حرب الهويّة لا تعصم صاحب الحقّ عن أن يعمى عن حقّ غيره، وأن يصير بالتالي جلاّداً. ومع مرور الزمن وتعاظم التجاهل الدوليّ، يروح جلاّد الحرب الأهليّة وضحيّتها يتبادلان الأدوار، فوق جثث المدنيّين الأبرياء التي تتراكم.

إنّ التحرّر، من دون كسر خناق الهويّات، وهم. وكسر الهويّات مستحيل في لحظة اشتباكها واندفاعها في الالتحام والعداء. فإمّا العمل لفصل هذه الهويّات واحدتها عن الأخرى، وإمّا التعويل على عشرات السنين من مكافحة الهويّات بحيث يأتي موتها، إذا أتى!، معادلاً لحرّيّة سوريّة.