محمد فايز فرحات 

أثارت حزمة القرارات والإجراءات المتتالية التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بهدف حماية بعض الصناعات الوطنية الأميركية، وعلى رأسها صناعة الحديد، تساؤلات كثيرة حول الدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذه الإجراءات. وكان التفسير الأكثر شيوعاً أنها تأتي في سياق حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين، باعتبار الأخيرة هي الهدف الأول من هذه الإجراءات. ووفق توصيف آخر هي جزء من «حرب باردة» بين الطرفين ولكن بمضمون تجاري في الأساس.

لا يمكن بالطبع إنكار وجود هذه «الحرب التجارية» بين الولايات المتحدة والصين، لكن ليس من الدقيق قصرها على هذين الطرفين، ذلك أن قراءة دقيقة لتطور القدرات الإنتاجية من الحديد لعدد كبير من الدول، وتطورات «سوق الحديد»، تشير إلى أن هذه الحرب سوف تتجاوز في أطرافها الولايات المتحدة والصين لتشمل عدداً كبيراً من الدول المتقدمة والصاعدة على السواء، مع التسليم بالموقع المتميز لهذين الطرفين في هذه «الحرب».

بداية أزمة الفائض

شهد العقدان الأخيران نمواً في حجم القدرات الإنتاجية من الحديد لعدد كبير من الدول، بمعدل يفوق معدل النمو في حجم الطلب العالمي الحقيقي على هذه السلعة، ما أدى إلى انتقال عدد غير قليل من المنتجين العالميين إلى مرحلة «أزمة الفائض في القدرات الإنتاجية» Overcapacity (حين يكون حجم الإنتاج الفعلي أقل من حجم القدرات الإنتاجية المتاحة)، فقد ارتفع حجم القدرات الإنتاجية العالمية تدريجياً من 1000 مليون طن سنوياً خلال الفترة 1980- 1994، إلى 1056 مليون طن عام 2000، ليصل إلى 2371 مليون طن في 2015. هذا النمو المتسارع في حجم القدرات الإنتاجية بمعدل يفوق معدل الطلب العالمي أدى بدوره إلى تنامي أزمة الفائض في القدرات الإنتاجية، والتي قُدرت بنحو 242 مليون طن سنوياً في المتوسط خلال الفترة 1980- 2007. لكنها شهدت نمواً بمعدل أعلى بعد حدوث الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2008، والتي أدت إلى تراجع كبير في حجم الطلب العالمي على الحديد، ليصل حجم الفائض في القدرات الإنتاجية إلى 500 مليون طن عام 2009، ثم 750 مليون طن عام 2015.

وجاءت المساهمة الأكبر في حجم الفائض في القدرات الإنتاجية العالمية من الحديد من جانب الصين بالأساس، فقد بلغ حجم الفائض في هذه القدرات عام 2015 نحو 336.2 مليون طن بنسبة 45 في المئة تقريباً من إجمالي الفائض في حجم القدرات الإنتاجية العالمية في ذلك العام، مقارنة بنحو 62.9 مليون طن للاتحاد الأوروبي (نحو8.4 في المئة من حجم الفائض العالمي)، 37.8 مليون طن لروسيا (نحو5 في المئة من حجم الفائض العالمي)، 35 مليون طن للولايات المتحدة (نحو4.7 في المئة من الرقم العالمي)، 25.4 لليابان (نحو3.3 في المئة من الرقم العالمي).

وجاء هذا النمو الضخم في حجم الفائض في القدرات الإنتاجية العالمية من الحديد نتيجة النمو المتسارع في حجم القدرات الإنتاجية، فقد بلغ مجموع الزيادات التراكمية في هذه القدرات في الصين بمفردها خلال الفترة 2000- 2014 نحو 990.4 مليون طن بزيادة نسبتها 75 في المئة من الزيادة المتحققة في القدرات الإنتاجية العالمية من الحديد خلال هذه الفترة، مقارنة بنحو 45.3 مليون طن لإقليم الشرق الأوسط، 29.3 مليون طن لروسيا، 29.2 لدول أوروبا الغربية من خارج الاتحاد الأوروبي، 25.5 مليون طن لأميركا اللاتينية، 4.1 للاتحاد الأوروبي، 1.9 للولايات المتحدة، 15.2 لليابان، 9.8 مليون طن لبقية دول العالم.

 

الإجراءات الحمائية

اللافت أن تطور هذا الحجم من الفائض العالمي من إنتاج الحديد جاء نتيجة عوامل مشابهة للإجراءات الأميركية الحالية، ففي حالة الصين جاء تسارع النمو في حجم القدرات الإنتاجية، ومن ثم الفائض في حجم القدرات الإنتاجية، نتيجة عوامل عدة كان أبرزها الإجراءات الحمائية التي فُرضت بهدف حماية الصناعة الوطنية من خلال فرض بعض الرسوم التمييزية ضد الواردات، إلى جانب سيطرة الشركات المملوكة للدولة على هذه الصناعة وتمتعها بالعديد من الحوافز الحكومية بهدف تسريع معدل النمو الاقتصادي بشكل عام وقطاع الصناعة بشكل خاص، فضلاً عن دعم الطاقة الذي حصلت عليه هذه الصناعة، والذي بلغ 27.1 بليون دولار أميركي خلال الفترة 2000- 2007. ولم يقتصر الدعم المقدم لهذه الصناعة على دعم الطاقة، بل شمل أشكالاً أخرى مثل توفير الأراضي بأسعار منخفضة (وصلت في بعض الحالات إلى 28 في المئة من سعر السوق). بالإضافة إلى عوامل أخرى، مثل النظام الضريبي الذي أدى دوراً في تشجيع شركات الحديد على الاستمرار في العمل بصرف النظر عن عامل الربحية، وذلك على خلفية اعتماد عائدات الحكومات المحلية على الضرائب، ما أدى إلى ربط الضرائب على شركات الحديد بالقيمة المضافة وليس بالأرباح الحقيقية. فضلاً عن فرض ضوابط صارمة على عمليات الخروج من السوق.

وأدت مشكلة الفائض في القدرات الإنتاجية إلى نتائج سلبية كبيرة للاقتصاد الصيني، أبرزها تراجع حجم عائد الاستثمارات في هذا القطاع والتي تأتي نسبة كبيرة منها في شكل قروض من المصارف المحلية، الأمر الذي أضر في النهاية بحوافز الاستثمار وبقدرة الشركات على تسديد هذه القروض وسداد فوائد الدين. كذلك كان لهذه المشكلة تأثير على حجم المخصصات المالية التي يتم تخصيصها من الأرباح السنوية لبرامج البحث والتطوير في القطاع، الأمر الذي يضر بالقدرات التنافسية للصناعة وقدرتها على الابتكار على المدى البعيد. لكن الأهم هو امتداد تأثير هذه الظاهرة إلى العلاقات التجارية الصينية مع القوى المنتجة والمصدرة الأخرى، خصوصاً الولايات المتحدة، الأمر الذي اضطر الصين إلى تقديم التزامات باتخاذ إجراءات محددة لتخفيض حجم الفائض في القدرات الإنتاجية في هذا القطاع في إطار ما عُرف بآلية الحوار الاستراتيجي الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة. وشملت هذه الالتزامات إعادة النظر في فرص نفاذ هذه الصناعة إلى عناصر الإنتاج، وفرض قواعد عادلة للنفاذ إلى هذه العناصر، وإعادة النظر في سياسات الدعم والضرائب، إلى جانب زيادة فرص نفاذ الاستثمارات الأجنبية إلى هذا القطاع. أضف إلى ذلك اتخاذ الحكومة الصينية إجراءات مباشرة لتقييد معدل النمو في القدرات الإنتاجية في هذا القطاع، كان أبرزها الإعلان في شباط (فبراير) 2016 عن خفض حجم القدرات الإنتاجية بقيمة إجمالية تتراوح بين 100 مليون 150 مليون طن خلال السنوات الخمس التالية، وفرض ضوابط أكثر صرامة على الزيادات المخططة في حجم القدرات الإنتاجية. ورصدت الحكومة الصينية في هذا الإطار نحو 15.4 بليون دولار لتعويض العمالة المتضررة من هذه السياسة.

لكن فعالية هذه الإجراءات تواجه مشكلات عملية لأسباب عديدة، أهمها وجود مصلحة لدى الحكومات المحلية الصينية في استمرار تزايد حجم القدرات الإنتاجية لأسباب تتعلق بالرغبة في الحفاظ على حجم الدخل المحلي، وحرص المستويات المحلية على زيادة حجم مساهماتها في الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن اعتبارات الحفاظ على معدلات التوظيف، الأمر الذي يشير إلى استمرار أزمة الفائض في القدرات الإنتاجية الصينية لفترة مقبلة، ومن ثم استمرار الحرب التجارية مع المنتجين العالميين.

ويتوقع استمرار هذه الظاهرة وتبعاتها أيضاً على خلفية عدد من العوامل الأخرى، أبرزها أن مشكلة الفائض في القدرات الإنتاجية من الحديد هي ظاهرة عالمية، ويتوقع تسارعها خلال السنوات المقبلة في ضوء التوسع المخطط لحجم القدرات الإنتاجية في هذا القطاع في عدد من الأقاليم، خصوصاً في الشرق الأوسط والهند وجنوب شرقي آسيا، بهدف تعزيز عملية التصنيع بشكل عام، وخفض حجم الواردات الخارجية، بشكل خاص. أضف إلى ذلك تشجيع الحكومة الصينية للشركات المنتجة على نقل قدراتها الإنتاجية إلى الخارج، وتشجيع عمليات الإندماج والاستحواذ على الشركات المحلية في عدد من الأقاليم، وهو ما بدأ يحدث بالفعل.