كرم سعيد

وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سهام نقده إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» بسبب ما اعتبره مواقف ضعيفة ومخزية للحلف في شأن عملية «غصن الزيتون» في منطقة عفرين السورية. كما جاءت هذه الانتقادات في ظل تماهي «الأطلسي» مع سياسات دول الحلف الرافضة للتدخل التركي في عفرين، وفي الصدارة منها واشنطن وبرلين وباريس. وكان حلف الناتو أعلن دعمه عملية «غصن الزيتون»، وحق تركيا في حماية أمنها القومي، لكنه واصل النظر إلى العناصر الكردية التي تستهدفها العملية نفسها، شوكة في خاصرة «داعش». والواقع أن توبيخ أردوغان الأخير للناتو لم يكن الأول من نوعه، ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، انتقد «الأطلسي» بسبب الإساءة إليه، وإلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة كمال أتاتورك خلال مناورات أجراها الحلف في النرويج، إذ تم وضع صورة أتاتورك على «لوحة أهداف» أثناء تدريبات عسكرية بينما تم فتح حساب باسم «أردوغان» أثناء دروس المحاكاة في برنامج محادثة لاستخدامه في التدريب على إقامة علاقات مع قادة دول عدوة، والتعاون معها.

ويتسع البون بين الجانبين، منذ سنوات عدة، ودخلت العلاقة بينهما مناخ الشحن بعد توقيع أنقرة صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S-400 مع موسكو، واعتبر الناتو إن شراء هذه الصواريخ سيحرم تركيا من إمكانية الاندماج في منظومة الحلف الموحدة للدفاع الجوي. بينما تتهم تركيا الحلف بـ «المماطلة»، والتهرب من بيعها منظومة الباتريوت التابعة للحلف، وهو ما اضطرها للتوجه نحو روسيا لتعزيز منظومتها الدفاعية. وعلى رغم أن الجيش التركي وفق موقع «غلوبال فايربور» يأتي ضمن أقوى عشرة جيوش في العالم، والثاني بين جيوش الناتو، إلا أنه لا يزال يفتقد إلى منظومة متطورة للدرع الصاروخية لمواجهة اختراقات الطائرات، أو مواجهة التهديدات العسكرية المفاجئة. 

والأرجح أن توتر العلاقة بين تركيا والناتو، خصوصاً بعد رفض الحلف تعزيز دفاعات جوية على الأراضي التركية لمواجهة التهديدات المقبلة من سورية، يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الناتو وأنقرة التي التحقت بحلف شمال الأطلسي عام 1952 بعد هيكلة منظومة التحالفات العسكرية والسياسية الإقليمية والدولية التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية.

واختارت أنقرة الغرب حليفاً وشريكاً خلال الحرب الباردة بسبب التهديدات والأطماع الروسية في مناطق نفوذ تركيا ناهيك عن العداء التاريخي بين روسيا والدولة العثمانية، فعلى مدار 500 عام جرت 12 مواجهة عسكرية بين تركيا وروسيا، الأولى كانت في العام 1568 والأخيرة في الحرب العالمية الأولى.

وعلى رغم أن لحلف الناتو ما يقرب من 50 قنبلة هيدروجينية في قاعدة أنغرليك الجوية جنوب تركيا في مدينة آضنة، فضلاً عن أن تركيا تمثل بعداً إستراتيجياً مهماً للحلف كونها تقع على الحدود الجنوبية لروسيا، إلا أن العلاقة بين الناتو وأنقرة حملت تاريخياً، وما زالت؛ قدراً من التعامل الفوقي تجاه أنقرة.

ولعل السلوك الاستعلائي للحلف تجاه أنقرة، وغض الطرف عن مصالحها، أدى إلى انعطافة تركيا شرقاً تجاه موســـكو التي باتت «حليف الضرورة» بالنسبة إلى الرئيس التركي ناهيك عن أن تصاعد حدة التوتر مع «الأطلسي» جعل أنقرة أكثر حرصاً على دفع العلاقة قدماً مع طهران.

ولا شك في أن موقف الناتو المتشدد من إيران بخاصة مع مجيء دونالد ترامب الذي يتبنى إستراتيجية عدائية تجاه طهران، ويدعو إلى التنسيق مع الحلفاء في الأطلسي، وخارجه لمواجهة أنشطة حزب الله وإيران، يخلق وربما بطريقة مباشرة، عقبة جديدة في التفاهم بين الناتو، وأنقرة، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على طبيعة العلاقات التركية- الأطلسية. وإذا كانت خصوصية المشهد بين حلف الناتو، وتركيا تشي بتحولات في شأن موقع تركيا داخل الحلف، فإن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها تركيا عشية الانقلاب الفاشل في تموز (يوليو) 2016، أثارت امتعاض الناتو، بخاصة أنه منذ المحاولة الانقلابية استبدلت أنقرة ضباطاً موالين للغرب في مناصب ديبلوماسية في أوروبا وحلف «الناتو» بآخرين متشددين ومؤيدين للتقارب مع روسيا.

تأسيساً على ما سبق، فإن ثمة مؤشرات تعزز احتمالات فتور العلاقة بين أنقرة والأطلسي، أولها أن تركيا سئمت مواقف الناتو تجاه مصالحها، وظهر ذلك بانتقاد أنقرة غياب دعم «الناتو» لها في عملية «عفرين»، وتشكيك بعض دول الحلف في إمكانية استمرار تركيا في عضوية الأطلسي مستقبلاً، خصوصاً في ظل ارتفاع التوتر مع دوله، وآخرها ألمانيا التي نقلت قاعدتها العسكرية من جنوب شرقي تركيا إلى الأردن في تموز (يوليو) الماضي.

وثانيهما تباين تصورات أنقرة، والحلف في شأن تعريف مفهوم «الإرهاب» والمنظمات الإرهابية، فبينما لا يرى «الناتو» حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري وأذرعه العسكرية- وحدات حماية الشعب- إرهابية، تعتبرها أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابياً.

خلف ما سبق فقد سئمت تركيا المواقف الضعيفة والمخزية للناتو تجاه الأزمات التي شهدتها تركيا، فعلي سبيل المثال، لم يساند الحلف أنقرة إبان أزمتها مع روسيا في كانون الأول (ديسمبر) 2015، كما تجاهل الناتو طلب تركيا إنشاء منطقة عازلة في الشمال السوري، بل سحبت ألمانيا أنظمة الدفاع الجوية باتريوت، التي كانت منشورةً في ولاية كهرمان مرعش الجنوبية من بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015.

غير أن فتور العلاقة، وتصاعد دعاوى غربية عن جدوى بقاء تركيا بالحلف، لا يعني من الناحية العملية أن العلاقات التركية الأطلسية مرشحة للقطيعة، فالحلف ما زال في حاجة إلى دور وظيفي لتركيا إضافة إلى أهمية أنقرة في موازنة الدور الروسي في سورية، خصوصاً أن موسكو تسعى عبر البوابة السورية إلى تقويض تماسك الناتو مقابل تعزيز مصالحها في أوروبا الشرقية والبلطيق وربما في ساحات أخرى أبعد من ذلك.

على جانب آخر، فإن أنقرة تبدي اهتماماً بالحلف على رغم مواقفه الضعيفة، وكان بارزاً، هنا، تصريح وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو بأنه «لا يمكن لأحد إخراج تركيا من الناتو». القصد أن الانتقادات والانتقادات المضادة بين تركيا والحلف لا تعني تكريس مسار القطيعة بين الطرفين، بالنظر إلى حاجة كل منهما للآخر، فالحلف الذي لا يخفي شكوكه في شأن التقارب التركي- الروسي، يدرك مساهمة أنقرة في شكل إيجابي على مر السنوات الماضية في تعزيز قوته. في المقابل، فإن أنقرة على رغم خدلان «الأطلسي» مصالحها، فإنها في حاجة ماسة إلى دعم وتطوير علاقتها الأطلسية، سيما في ظل ضعف المناعة الإقليمية لأنقرة، وتوتر علاقاتها مع دول خليجية ناهيك عن عدم ثقتها في حلفائها اللحظيين، وبخاصة موسكو وطهران.


* كاتب مصري.