نديم قطيش

أعاد مشهد رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام في الإليزيه، خلال مباحثات ثلاثية مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، سبقت عشاء على شرف الضيف السعودي، حضره الحريري، صورة العلاقة التي جمعت بين الراحلين رفيق الحريري وجاك شيراك.

كان انضمام الحريري إلى عشاء الأمير محمد بن سلمان - ماكرون وقبلها محادثات مقتضبة معهما، بحد ذاته حدثاً، تلا الحدث الفرنسي - اللبناني الكبير الذي هو استضافة مؤتمر «سيدر» الاقتصادي لدعم لبنان، والمقتربة حصيلته من 12 مليار دولار.
ثمانٍ وأربعون ساعة فرنسية تضعنا بإزاء إشارات لا تخطئها العين بشأن مستوى الرعاية الفرنسية للبنان عامة والرابط الآخذ في التطور بين الحريري وماكرون.

الجانب الآخر في تشابه الصورتين، رفيق الحريري - جاك شيراك، وسعد الحريري - إيمانويل ماكرون، هو الإدراك الفرنسي الدقيق للبعد الاستراتيجي في العلاقة السعودية اللبنانية، والاستعداد الفرنسي للتدخل التلقائي وقت اللزوم لتذليل أي شوائب قد تطرأ على هذه العلاقة بوصف أنها صمام أمان لاستقرار لبنان، وعمود فقري لديمومة محور الاعتدال وقوى الدولة في هذا الوطن الصغير.

لم يكن ينقص هذه المشهدية إلا «دبلوماسية السيلفي» التي باتت مدرسة اتصال وإعلام خاصة بالحريري، يستعيض بها عن الإعلام التقليدي البليد ونمطية المستشارين، لبعث الرسائل باتجاه الجميع. جاءت السيلفي الأولى جامعة للحريري مع الأمير محمد بن سلمان والعاهل المغربي الملك محمد السادس، مقرونة بعبارة «لا تعليق» ثم سيلفي ثانية بين الحريري والأمير محمد وماكرون، ليقول من خلالهما إنه دخل مرحلة سياسية جديدة على مستوى المنطقة، إن كان عبر استعادة حيوية علاقاته الدولية التي لطالما ميزت الحريرية السياسية، أو من خلال طي صفحة ضبابية في العلاقة السعودية اللبنانية والعودة بهذه العلاقة إلى سويتها التاريخية والتي هي الركن الأساسي في العمارة الحريرية.

الصورة الكاملة إذن هي الأمير محمد بن سلمان - الحريري - ماكرون كما كانت الصورة سابقاً الملك فهد (لاحقاً الملك عبد الله) - الحريري الأب - شيراك.

لكنها ليست لعبة صور ومرايا فقط. وقائع مؤتمر «سيدر» الذي شهد تجديد السعودية خط ائتمان للبنان بقيمة مليار دولار لم يتم استخدامه سابقاً، دليل على عودة سعودية جدية إلى لبنان. دعك عن أن المؤتمر نفسه الذي وصفه الحريري بأنه شراكة بين لبنان والمجتمع الدولي لاستقرار لبنان ولتحقيق نمو مستدام، هو عودة حرفية إلى حريرية الأب، وسياساته الإعمارية الضخمة والرهان على دعم المجتمع الدولي بحكوماته ومؤسساته المالية.

الأهم ربما هي مخاطبة المجتمع الدولي للبنان من خلال شخص الحريري، والرهان عليه شخصياً كرافعة للمشروع الاقتصادي السياسي الذي ينطوي عليه مؤتمر «سيدر» وما سبقه من مؤتمرات وما سيليه، وهو ما كان واضحاً في كلمة الرئيس ماكرون وفي رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي قرأها ديفيد ساترفيلد، وفي النصين توجه إلى الحريري باعتباره العنوان الذي يتواصل المجتمع الدولي من خلاله مع لبنان.

على خطى أبيه، أكد الحريري في أكثر من مناسبة أن التوافق السياسي كان السبب الرئيسي لنجاح مؤتمر «سيدر»، متجنباً تحويل المؤتمر إلى مادة اشتباك داخلية رغم محاولات حثيثة شهدها مجلس الوزراء وشهدتها التصريحات السياسية لفعل ذلك. وهو يعتبر أن الرهان على التسوية الرئاسية مع العماد ميشال عون نجح حتى الآن في تأكيد نفسه كحجر زاوية للاستقرار السياسي والاقتصادي للبنان، على نحو بدد الشكوك الإقليمية والدولية بهذه التسوية واستحصل على تجديد الفرصة لها في مرحلة ما بعد الانتخابات.

كان واضحاً في هذا السياق أن الرئيس الحريري عاد من زيارته السعودية، الأولى بعد الاستقالة، إلى بيروت نهاية فبراير (شباط)، مطلق اليدين في إدارة الانتخابات والتحالفات والترشيحات وفق ما يرى أنه يصب في مصلحة التسوية الرئاسية، وبالتالي في مصلحة دوام الاستقرار السياسي الذي يفتح الباب أمام محاولات جدية لتثبت الاقتصاد ومنع الانهيار، كمثل محاولة مؤتمر «سيدر» الناجحة حتى الآن بكل المقاييس الموضوعية. وما يعزز الانطباع عن نجاح الحريري في حماية التسوية الرئاسية، أن المملكة انتظرت حتى اكتمال عقد الترشيحات والتحالفات وتشكل اللوائح، لتظهر على المسرح اللبناني في مناسبة افتتاح جادة الملك سلمان بن عبد العزيز وسط بيروت، ولتجمع كلا من الدكتور سمير جعجع ووليد بك جنبلاط والحريري في لقاء على هامش المناسبة، كي لا يقال إنها تتدخل في الانتخابات.

الحقيقة أن حزب الله أبرز جهة تنبهت لهذه الملامح الحريرية الجديدة. من هنا كان تموضعه في خانة «مكافحة الفساد» باعتبارها مشروعه في المرحلة المقبلة. والعارفون بتاريخ هذا المصطلح في لبنان وتاريخ استخداماته لا يفوتهم أنه عنوان لطالما ارتبط في لبنان بعمليات الشغب على الحريرية السياسية ومشاريعها ومحاولاتها للنهوض بلبنان، تماماً كما يحاول سعد الحريري اليوم.

يعرف حزب الله أن المجتمع الدولي لا يقدم الهدايا مجاناً، وأن وراء الاقتصاد رهانات سياسية، مهما حاول الحريري طمأنة خصومه واللعب على ورقة التوافق. من مثل حزب الله لا تعميه الخطابات وهو يعرف أن مرحلة جديدة من معركة استعادة لبنان قد انطلقت وهو لن يبقى مكتوف اليدين.