عزت صافي

 عادت الدولة اللبنانية من مؤتمر «سيدر» في باريس مترسملة بقروض دولية تعدت رقم 11 بليون

دولار، وقد وُصف ذلك المؤتمر بــ «تظاهرة دولية وإقليمية غير مسبوقة منذ سنوات طويلة»، وكانت من أجل لبنان.

عشر دول عربية وأميركية مع دول الاتحاد الأوروبي، وبنوك استثمار وتنمية، وصناديق عربية، تلاقت في عملية تعويم ودعم ونهوض بدولة لبنان الغارقة في ديون متراكمة بأرقامها وفوائدها، وقد فاقت ثمانين بليون دولار، من دون الاستناد الى ثروات طبيعية ثابتة، باستثناء مواسم محكومة بالمناخ، مع الشطارة بالتجارة، وبالوظيفة الرسمية، فضلاً عن أمل كبير بالثروة النفطية المتجمدة في قاع البحر، وفي منطقة النزاع مع العدو الإسرائيلي الذي سبق لبنان بالتصدير الى الأسواق العالمية.

حتى سنوات غير بعيدة بمقياس الزمن، كان الدين على الدولة اللبنانية دون رقم عشرة بلايين دولار... كان ذلك زمن عز لبنان بمواسم السياحة والاصطياف، والتجارة الحرة، والرخاء الاقتصادي، والرأسمال العربي والأجنبي عابر البنوك اللبنانية، والعربية، والأجنبية.

أما كيف تراكم ذلك الدين وتضخّم، واستشرس؟ حتى بات ممسكاً بعنق لبنان، وبشرايين اقتصاده، وبقوت شعبه الذي انقسم ثلاث طبقات: طبقة العشرة بالمئة الأولى، وطبقة العشرين بالمئة الثانية، وطبقة السبعين بالمئة الثالثة، أي الطبقة الشعبية البائسة، فتلك مسألة معقدة لها حسابات لا أصول لها ولا حدود.

لكنها فرنسا، «الأم الحنون» للبنان عبر التاريخ، التي تطوعت، كما في أزمنة سابقة، لمساعدة «الابن» اللبناني الذي يختلف بين عهد وعهد، وينقلب بين حال وحال، وتبقى فرنسا العين الساهرة على «الابن الضال» من وقت الى آخر! «فلبنان، الكيان، والشعب، والجمهورية، مقيم دائم في ضمير فرنسا، أياً يكن الرئيس في بيروت، وأياً يكن الرئيس في باريس» هذه الجملة السياسية وردت في كلمة للرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان في قصر الإيليزيه ترحيباً بزيارة الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس باريس ربيع العام 1978.

وقبل جيسكار ديستان كان جورج بومبيدو، وقبل بومبيدو كان الكبير شارل ديغول الذي أحاط لبنان في عهده برعاية مميزة طول فترة رئاسته، وكان درعه في مواجهة إسرائيل.

«في العلاقات الدولية ليست هناك صداقات، بل براهين على هذه الصداقات». ولذلك، تحملت فرنسا في مؤتمر روما (الذي ســـبق مؤتمر باريس) مــسؤولياتها من خلال إفساح المجال للدولة اللبنانية لشراء أسلحة بقيمة 400 مليـــون يورو لتطوير قواتها العــسكرية»، وفق ما أعلن الرئيــس مانـــويل مـــاكرون، لتعزيز استقرار لبنان بعملية نهوض اقتصادي عبر شبكة أمان سياسية، وبغطاء مباشر من المجتمع الدولي، مع تأكيد أن لبنان ليس متروكاً، وأن له أصدقاء أمميين يقفون الى جانبه للنأي به عن الصراعات الدائرة في المنطقة، ويبقى عليه واجب الاستعداد الدائم لصد أي عدوان إسرائيلي.

لا يذكر التاريخ أن خطب المدائح والتبجيل، لأي جيش، أو وطن، تصنع انتصارات. فلو أن تلك الخطب تحقق انتصارات لكانت الجيوش العربية قضت على إسرائيل في أولى الحروب معها منذ العام 1948. وللجيش اللبناني في تاريخ جيوش الدول العربية صفحات مميزة. فأشهر كلية عسكرية في الشرق كانت في مدينة حمص السورية. وإذا كان ضباط تلك المدرسة من الفرنسيين، في زمن الانتداب، فإن دفعات الضباط والأركان المتخرجين في تلك المدرسة، من لبنانيين وسوريين، كانوا ينافسون أقرانهم الفرنسيين في خطط الهجوم والدفاع والمناورة. وعلى أيدي هؤلاء الضباط تأسس الجيش اللبناني الوطني، كما الجيش السوري، بعد استقلال الجمهوريتين، والتاريخ يذكر لمؤسس الجيش اللبناني الجنرال فؤاد شهاب دوره في بناء المدرسة الحربية التي قامت على النموذج الوطني اللبناني، أي على وحدة الإيمان والولاء للوطن على قاعدة الاندماج في شعب موحد لكيان ثابت، مستقر، وآمن، وحر.

سوف يشكل مؤتمر باريس شهادة على أن فرنسا باقية ضمانة دولية للبنان، وقد أكدت ذلك بتعيينها سفيراً خاصاً لمتابعة أعمال مؤتمر «سيدر» بإشراف وزير الخارجية جان إيف لودريان الذي أعلن بوضوح «أن كل ما يمـــس لبنان يمسنا عن كثب في منطقة تشهد أعمال العنف وقتل المدنيين»، ثم إن الوزير لودريان كان كريماً بقوله «إن لبنان يبقى مثالاً للتنوع والانفتاح والتسامح والتعايش، والشراكة... وهذا ما نحن في حاجة إليه».

بانتهاء أعمال مؤتمر باريس وإعلان قراراته، انتهت مسؤولية المجتمع المالي الدولي لتبدأ مسؤولية الدولة اللبنانية بتسييل البليونات على المشاريع المقررة لدفع لبنان الى مسار دولة عصرية لا تشكو من انقطاع الكهرباء، ولا شح المياه، ولا التلوث البيئي، ولا التقصير في تأمين حقوق اللبنانيين بفرص العمل، والضمان الصحي، والانتعاش الاقتصادي والسياحي، خصوصاً أن لبنان غني بعطاءات الطبيعة للفصول الأربعة، كما هو غني بالكفايات والمؤهلات العلمية، واليدوية، لتنفيذ المـــشاريع المموّلة من «ســـيدر» باريس. وكم كان ضـــرورياً لو أن الدول والمنـــظمات المساهمة(وعددها 48 دولة ومنظمة) شكلت إدارة مراقبة دولية من أهل القانون والخبرة والاختصاص للإشراف على ورشة إعادة إعمار لبنان إنشائياً وإنمائياً، خصوصاً في قطاعي الكهرباء والمياه، والصرف الصحي، والنفايات، مع تنفيذ مشروع النقل العام، وربط العاصمة بشبكة مواصلات مع جميع المناطق. ولعل الأهم من كل ذلك عملية الإشراف على المناقصات التي ستجرى لتلزيم الدراسات والتنفيذ.

هي ورشة بناء مؤســسات ومصالح وخدمات على نفقة الدولة للاستـــثمار في القطاع العام. لكن دولاً عصرية كثيرة تركت للقطاع الخاص فرص تنفيذ مشاريع حيوية لحـــساب القطاع العام، ودائماً تأتي النتائج لتثبت ضمان الفوائد لحساب معظم فئات الشعب، وفي لبنان أثبتت مبادرات بلديات كبيرة ومتوسطة لإنشاء محطات كهرباء بديلاً من كهرباء الدولة، وتأتي النتائج باهرة.

وكم كان وزير الاقتصاد والمال الفرنسي برونو لومير «لبنانياً» بعاطفته، حين وقف وخاطب مؤتمر «سيدر» قائلاً إن استقرار لبنان بالنسبة الى فرنسا أمر حيوي، وفرنسا تعرف، كما الحشد الدولي، أن الوضع القائم (في لبنان) لا يُطاق، ولذلك لا بد من الإصلاحات الهيكلية للنمو الاقتصادي، وتصحيح المالية العامة، وتعزيز قدرة البلاد على استقطاب أكبر عدد من المستثمرين والشركات الخاصة».

هنا توقف الدور الفرنسي في مؤتمر «سيدر» ليتحول مع سائر الدول المشاركة الى التطلع نحو لبنان، أي نحو الدولة اللبنانية، فهي المؤتمنة بالدرجة الأولى على بليونات مؤتمر «سيدر» لبنان، في عهدة رؤساء، ووزراء، ونواب، وموظفين كبار، وسفراء، ورجال أعمال، ومديري شركات كبرى، ومصارف، ووجهاء، وسياسيين كبار، وصحافيين، ومراقبين، وليتذكر الجميع أن هناك قانوناً اسمه وعنوانه «من أين لك هذا؟» هذا القانون وضعه كمال جنبلاط ورفاقه في «الجهة الاشتراكية الوطنية» مع نخبة من وزراء ونواب، بينهم العميد ريمون إده، وأنور الخطيب، وحميد فرنجية، وإميل البستاني، وغسان تويني، وعبدالله الحاج في العام 1952، لكن ذلك القانون لم يطبق على أحد منذ إقراره في النصف الثاني من القرن العشرين.

هناك حمل ضخم تنوء تحته الدولة اللبنانية يتمثل في الدين العام الذي يتخطى حاجز الثمانين بليون دولار. والبعض، من أهل العلم والحساب والاطلاع على مالية الدولة وأرقام المديونية العامة، يشير الى أن الأرقام الصحيحة تتعدى رقم الثمانين بليوناً... وأكثر

فهل يحق للبنانيين أن يسألوا: لماذا لم يطبق «قانون من أين لك هذا» على أحد من المسؤولين في الوظيفة العامة، خلال كل تلك السنوات التي مضت؟

وهل يحق للبنانيــين أن ينتظروا من يمثل أمام القضاء ليجيب عن ســـؤال واحد: «من أين لك، أولكم، كل هذا؟!».

وعلى سبيل التخمين، فلو باستطاعة الحكومة اللبنانية تحصيل نصف المبالغ المسلوبة، على مدى عهود وسنوات، من حساب المال العام لكانت النتيجة وفراً ببليونات الدولارات في صندوق الشعب اللبناني.

هي حسرة في قلوب اللبنانيين، لو يتيسر لهم أن يعلموا، فقط لمجرد العلم، كم عدد بليونات الدولارات الراكدة في ذمة الذين يعرفونهم، ولا يعرفونهم!