ميسون الدخيل

يوم الثلاثاء الماضي شاركت في ندوة منتدى «رواق بكة» في رحاب النادي الأدبي لمدينة مكة المكرمة، وكان عنوان الندوة «الكاتب الصحفي في العالم الذكي»، حيث كانت مشاركتي ككاتبة رأي في صحيفة الوطن وأكاديمية في جامعة جدة، لم أعتمد على خبرتي فقط في الكتابة من خلال منبر إعلامي، بل اعتمدت أيضا على خبرتي الأكاديمية في الدراسة والتحليل للموضوع، وحين وصلت إلى مشارف مكة صادفت هطول أمطار غزيرة مصحوبة بالبرد والبرق والرعد، لم أعد أدراجي من حيث أتيت لأنني كنت قد وافقت على الحضور والمشاركة، إضافة إلى أنها فرصة لمشاركة جامعة جدة في فعالية مجتمعية، تضاف إلى سجل منجزاتها في هذا المجال، وحسنا أنني لم أتراجع، فقد وجدت في انتظاري عندما دخلت القاعة عددا لا بأس به من السيدات المثقفات القديرات، اللائي أثرين بمشاركاتهن الحوار، وأضفن إليه الكثير، خاصة أنه كان بينهن شابات أبدين رغبتهن في الانخراط بمجال الصحافة، وحضرن خصيصا للتزود بالمعرفة والخبرة من حيث تضارب التعريفات وتداخل التخصصات بالنسبة لماهية الكاتب الصحفي، وما هو دوره في ضوء التغيرات التي يفرضها اليوم العالم الذكي.


ما هي التغيرات التي أقصدها؟ إنها التغيرات التي طرأت على وجه الإعلام الإخباري من قبل مغردين ومدونين، إضافة إلى ما يسمى اليوم بـ«المواطنون الصحفيون»، أناس لم نعرف عنهم أي شيء من قبل أصبحوا بين عشيّة وضحاها في قلب الصورة، يُتابَعون من قبل الملايين حول العالم! هذا الأمر بحد ذاته أدخل إلى دائرة الضوء أسئلة مهمة عن ماهية الإعلام، وأين تقع المسؤولية؟ والأهم من ذلك من سيدفع ثمن أي خطأ في النقل أو التحليل أو النشر؟
من هو الصحفي؟ حتى وقت قريب كانت الإجابة واضحة: كل مَن يقوم بإنتاج مواد تحريرية، يتم نشرها أو بثها إلى الجمهور، سواء أكان ذلك ورقيا أو سمعيا أو بصريا، لكن اليوم نجد أن الأبواب قد فتحت على مصراعيها، وأصبح الداخل في هذا المجال أكثر من الخارج! فقد سمحت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بانتقال المعلومة من أي شخص يبثّها، بغض النظر عن مهنته الأساسية أو انتمائه أو موقعه، إلى بقية أنحاء العالم خلال ثوانٍ معدودة! ولكن، من يقوم بذلك هل يمكن أن نعتبره صحفيا؟ أو أن الفعل بحد ذاته هو صحافة؟ إن قمتُ ببناء موقع شخصي، وبدأتُ بنشر أخبار ثقافية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو فنية دون أي خبرة سابقة أو خلفية تخصصية، هل يجعل ذلك مني صحفية؟ وإن غردتُ في «تويتر»، أو نشرتُ على «فيسبوك»، أو غيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي، مقاطع من قلب الحدث، مقاطع فورية، وربما صاحبتها بعض التعليقات، هل أستطيع أن أتقدم إلى نقابة الصحفيين، وأحصل على «كارت» صحفي؟
يقول أحد الصحفيين: «إذا كانت الصحافة أن أخبر الناس بما يريدون معرفته، فما أفعله هو صحافة»، ويقول آخر «إن التغريد والتدوين صحافة»، ولكن أليست الصحافة هي عن التحقيق في القصص والتحقق من صدقها، ومعرفة كيفية صياغتها ونشرها، دون التعرض لخصوصية أو حقوق الغير! لقد نشرت جمعية الصحفيين المحترفين في الولايات المتحدة على مدونتها ميثاقا لأخلاقيات المهنة، تطالب فيه الصحفي بالالتزام بعدة أمور. أولها: البحث عن الحقيقة وإعلانها. وهذا يشمل التحقق من الحقائق وليس بقصد تشويه المعلومات، وتحديد المصادر، وتجنب الصور النمطية، ودعم التبادل المفتوح للآراء. وثانيها: التقليل من الضرر. وهذا يشمل إظهار التفهم والتعاطف مع مصادر ومواضيع القصص وحماية خصوصية الأفراد. وثالثها: التصرف بشكل مستقل. ويشمل ذلك تجنب تضارب المصالح والفساد، ومقاومة محاولات المعلنين ومجموعات المصالح الخاصة للتأثير على الأخبار، وآخرها: أن يتحلى الصحفي بالمسؤولية. ويشمل ذلك تصحيح الأخطاء، وتقبل النقد، وكشف الممارسات غير الأخلاقية لوسائل الإعلام. الآن هل التسونامي الإخباري ومَن وراءه مِن أشخاص يتجددون ويتزايدون كل يوم صحافة؟ هل هم صحفيون؟
نعم لقد تغير الزمن، ومرت الصحافة بعدة مراحل؛ بدءا من التدوين على المسلات في الساحات من قوانين حمورابي إلى الإعلام الفرعوني، وهكذا دواليك إلى أن تم اختراع الطباعة، ودخلت الصحافة عصرها الذهبي، ولكنها بقيت حتى وقت قريب محدودة مناطقيا؛ بمعنى أنك لا تستطيع أن تقرأ صحيفة مدينة في مدينة أخرى إلا أن يحضرها أحدهم إليك، وفيما بعد، ومع دخول عصر المواصلات، بدأت تنتشر على نطاق أوسع، ولكن ليس بالانفجار الذي حصل مع دخول العصر الرقمي، حيث أصبحت فرص النشر أكبر من أي وقت مضى! إلا أن مستقبل الصحافة بجوهرها الأساسي أصبح مشوّشا وغير واضح؛ الكمية والسرعة أخذتا دورا أكبر من النوعية والموضوعية والأخلاقيات المهنية! وعليه فمن سيدفع الثمن؟ الصحافة، وبالتالي الجمهور المستقبل! لأن الصحافة المهنية والجادة يجب ألاّ تكون تجارية، ثم إن صحافة المواطن العادي ليس بمقدورها أن تحافظ على روح الأصل، لأنه غالبا ما ينقل الزاوية التي تظهر له، أو بناء على وجهة نظره وانتماءاته! يذكر أحد المهتمين بالصحافة أن هنالك ركودا وتغيرات هيكلية في جسد صناعة الخبر، وهذا بدوره وضع ضغوطا كبيرة على الصحافة، ولهذا سنشهد ارتفاعا في التشاركية في إنتاج الخبر ما بين الصحفي المهني والمواطن العادي الذي يصادف تواجده في المكان المناسب في اللحظة المناسبة، بمجرد أن يرفع جهازه ويلتقط المشهد! وماذا نعني بالتشاركية؟ المقصود هنا أنه على الصحفي أن يتقبل الجمهور الجديد وسلوكياته؛ التي تبناها مؤخرا مع متغيرات العصر! إضافة إلى تقبله كمساهم في صناعة الخبر، يحتاج أيضا إلى تفهم رغبة هذا الجمهور في التعاون مع الصحفي في صناعة الخبر، وهنا يبرز السؤال التالي: هل الصحافة الشبكية (مع المواطن الصحفي) أداة مناسبة للعمل من خلالها والخروج بمنتج إعلامي في المستقبل؟ وفقا لرأي الكثير من صحفيي اليوم فإنهم يقومون بذلك فعلا، بل إن ذلك لم يعد خيارا، بل أصبح واقعا يجب التعامل معه! فالجمهور أصبح له صوت ورغبة في أن يشارك، لا أن يقف متفرجا على أطراف الساحة! ما المطلوب أو المتوقع الآن؟ حسب رؤية أحد المتخصصين في هذا المجال، فإنه يجب أن يبدأ هذا الصحفي بالاستثمار في إنشاء بيئات تسهم في هذا التعاون ليبقى العامل المهني حيا، للتحقق من نوعية وصدقية المعلومات من خلال الترشيح وإبراز النافع والهام منها، والتحرير، والفحص، والتحليل، ومن ثم التعليق الموضوعي المتخصص. إنّ كل ما سبق يعد أساسيات من شأنها أن تساعد الصحافة على تخطي تحديات العصر الرقمي، هذا إن توفر لها المحررون المهنيون والأدوات المناسبة، مصحوبة بالإرشاد والتوجيه.
قال أحد الصحفيين المشهورين ذات مرة: «نحن المتابعون المستقلون في العالم، الذين يذهبون إلى أماكن لا يمكن لجمهورنا أن يذهب إليها، والتعمق حيث لا يستطيع التعمق، ودراسة وتفسير ما لا يتوفر لديه من وقت للدراسة والتفسير، حتى يتمكن من فهم العالم بشكل أفضل». وقال آخر «اعتدنا أن نقول إن الصحفيين يكتبون أول مسوَّدة للتاريخ، لم يعد الأمر كذلك! الآن يكتب من هو في قلب هذه الأحداث، المسوَّدة الأولى». ويضيف أن ذلك يعني أن دور الصحفي قد تغير، لقد دخل في مشروع مشترك مع الجمهور الجديد وسلوكه المعتمد حديثًا كمساهم، ولكن هل هذا ينذر بنهاية الصحافة المهنية؟ هل هذا الأمر سيسهم في أن الهواة سيأخذون محل ودور الصحفي التقليدي؟ بالطبع كلا، ولكن سيحتاج الصحفيون إلى إيجاد طريقة للتقرب من الجمهور والتعاون معه، لأنه، أي الجمهور، يمتلك إمكانية الوصول الفوري إلى المعلومات، بل هو الأقرب إلى الحدث الفعلي من الصحفي نفسه! 
لقد غير هذا الواقع الجديد طرق صناعة الخبر من عملية فردية إلى عملية تعاونية، فأصبح مستهلك الأخبار مساهما، بل أصبح في كثير من الأحيان مبتكرا للخبر! إنه عصر المستهلك النشط الفاعل الذي يدرك أهمية دوره وصوته، إنه مستهلك يريد أن يكون بطلا أو مشهورا إن أمكن، يبحث عن «ربع ساعة من الشهرة»، وإن لم نقم بالتعامل الذكي مع هذه النقطة ونضبطها، فسوف نخسر الجودة على حساب السرعة والكمية! وبذلك تصبح الصحافة مهنة مَن لا مهنة له!