إدريس لكريني

شهدت مدينة الظهران السعودية أخيراً، انعقاد القمة العربية التاسعة والعشرين، بحضور وازن لقادة عدد من الدول الأعضاء، في ظرفية إقليمية حبلى بالتحديات والمخاطر، ما جعلها تركز على عدد من القضايا والإشكالات.

استأثرت القضية الفلسطينية باهتمام كبير ضمن أجندة هذه القمة، التي أطلق عليها «قمة القدس»، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى خطورة الأوضاع الإنسانية والأمنية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع تنكّر العدو «الإسرائيلي» للاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينيين منذ بداية التسعينات، وإقدامه على ارتكاب المجازر في حقّ شعب أعزل، وعلى تغيير المعالم الإسلامية في القدس، وتشديد الخناق على الساكنة، والاستمرار في بناء المستوطنات، وسط تأييد مريب للولايات المتحدة بوصفها «راعية السلام».

لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تجاوزه بكثير عندما أقدم الرئيس الأمريكي «ترامب» على اتخاذ قرار خطير يقضي بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس، في تنكر صارخ لقرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، واستفزاز للرأي العام العالمي، وتجاوز للدور الأمريكي المفترض كراعٍ للسلام. 

كما تأتي القمة في مرحلة صعبة ومفصلية بالنسبة للمنطقة، من حيث تنامي الخلافات العربية البينية، وتصاعد التدخلات الإقليمية والدولية، إضافة إلى تزايد الصراعات الداخلية التي اتخذت طابعاً دامياً في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا.

فيما تضاعفت حدّة المخاطر والتحديات المختلفة التي اجتاحت العديد من الدول العربية، سواء تعلّق منها بتفشي الإرهاب وتمدّده الذي انتعش في عدد من بؤر التوتر بالمنطقة، وما أصبح يشكله ذلك من تهديد حقيقي لاستقرار الدول والمجتمعات؛ بل وللسلم والأمن الدوليين بشكل عام.. كما تنامت المعضلات الاجتماعية في عدد من الأقطار، ترجمها تزايد نسبة البطالة والفقر وطلب اللجوء والهجرة بكل أصنافها؛ بحثاً عن فضاءات آمنة ومستقرة.

ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً، هو استغلال عدد من القوى الإقليمية لحالة التردي التي تطبع العمل العربي المشترك وهشاشة الأوضاع السياسية والأمنية في دول ما يسمى «الربيع العربي»، لتعزيز تدخّلاتها بسبل ملتبسة، عمّقت الجراح أكثر.. وهذا أمر طبيعي إذا ما استحضرنا وضع جامعة الدول العربية وضعف التنسيق والتعاون الإقليميين، وتصدّع العمل العربي المشترك، وتباين المواقف العربية بصدد عدد من الأزمات والقضايا الإقليمية والدولية.. 

ثمّة حقيقة اليوم لا يمكن إنكارها أو تجاوزها، وهي أن القمة انعقدت في أجواء ملتهبة يمر فيها النظام الإقليمي العربي بأحلك فتراته، بسبب الأوضاع المأزومة التي تعم عدداً من دول المنطقة وخروج بعضها من دائرة التوازن في منطقة الشرق الأوسط، كما هو الشأن بالنسبة للعراق وسوريا، بما يجعل من كسب رهانات القمة في أبعادها ومطامحها المختلفة أمراً لا يخلو من صعوبات وتحديات. 

حاولت القمّة التطرق لعدد من القضايا الراهنة، في ارتباط ذلك بدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والاتفاق على تقديم العون له، وإدانة التوجهات «الإسرائيلية» القاضية بتهويد القدس والتنكر للاتفاقات المبرمة، ورفض القرار الأمريكي بنقل السفارة إلى القدس، مع الترحيب بقرار الجمعية العامة الوارد في هذا الخصوص، والدعوة إلى احترام وتطبيق قرارات مجلس الأمن الداعمة لهذه القضية العادلة. وهو توجّه ينطوي على أهمية كبرى باعتباره يعيد البريق للقضية الفلسطينية، ويجعلها في صلب الاهتمامات العربية والدولية بعد سنوات من النسيان؛ بسبب المراهنة على مسار تفاوضي مختلّ..
دعا المشاركون أيضاً إلى توخي اليقظة إزاء المؤامرات والتدخلات الإقليمية التي تستهدف دول المنطقة، كما هو الشأن بالنسبة للعراق وسوريا، وبخاصة من قبل تركيا وإيران، حيث دعا الزعماء العرب القوى الإقليمية إلى إرساء علاقات مبنية على حسن الجوار.
فيما تمت إدانة استمرار إطلاق الصواريخ البالستية الإيرانية الصنع على المملكة العربية السعودية، من عمق الأراضي اليمنية، معتبرين أن الأمر يشكّل عدواناً ضد المملكة وتهديداً للأمن القومي العربي برمته، مع التأكيد أيضاً على ضرورة إيجاد حلّ سياسي ينهي الأزمة السورية، والحرص على أمن العراق واستقراره وسلامة ووحدة أراضيه، والتشديد على أهمية دعم المؤسسات الشرعية الليبية، وسيادة الإمارات العربية المتحدة على جزرها الثلاث.. 

كما تم التأكيد على حقّ سوريا في استعادة كامل الجولان المحتلّ، وعلى التضامن الكامل مع لبنان وتوفير الدعم السياسي والاقتصادي له ولحكومته ولكافة مؤسساته الدستورية بصورة تحفظ وحدته الوطنية واستقراره.. 

فيما تمت إدانة الأعمال الإرهابية التي تمارسها مختلف الجماعات داخل المنطقة العربية وعبر العالم، مع الدعوة لتجنيد القوى وتطوير المنظومة العربية لمكافحة هذا الخطر العابر للحدود.
تنطوي مخرجات القمة على أهمية كبرى بالنظر إلى الظروف الصعبة التي تمرّ بها المنطقة على كافة الواجهات. لا تخفى المؤامرات الخارجية التي تحيط بالنظام الإقليمي العربي بكلّ مكوناته العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ما أسهم في إدخال المنطقة في دوامة من الصراع والعنف والتشرذم، غير أن تدهور هذا النظام يتأسس في جزء كبير منه على عوامل ذاتية تتصل في مجملها بعدم القدرة على حل الخلافات والأزمات البينية بسبل ناجعة وبنّاءة، وعلى هشاشة العلاقات الاقتصادية والتجارية العربية، وعدم تطور أداء الجامعة العربية؛ التي تظل بحاجة إلى إصلاحات حقيقية، تدعم «دمقرطتها» وانفتاحها ومواكبتها للتحولات المتسارعة التي شهدتها المجتمعات العربية، وللمتغيرات الكبرى التي فرضها المحيط الدولي، عبر تجاوز منطق الإجماع في اتخاذ القرارات، وتعزيز المقاربة التشاركية بالانفتاح على مكونات مجتمعية عربية (هيئات مدنية وأحزاب وجماعات ترابية وجامعات ونخب مثقفة..) في تطوير أداء هذه المنظمة، واستحضار التجارب الدولية الرائدة في هذا الخصوص، كما هو الأمر بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي حقّق مكتسبات لا تخفى أهميتها بالنسبة للبلدان الأوروبية داخلياً وخارجياً.