محمد الساعد

منذ أوائل الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات الميلادية عاش الفن الغنائي في السعودية ازدهارا ملفتا في دولة كانت تعد من الدول الناشئة وليس لديها الأدوات الإعلامية القادرة على نقل صوتها للعالم، إضافة إلى رأي فقهي صارم تجاه الغناء والمعازف بالذات، ومع ذلك استطاع الفن السعودي ليس فقط الخروج من زوايا صحراء الجزيرة بل فرض سمعة وذائقة استمرت لليوم.

كان الغناء ثريا لدرجة ملفتة والسبب في ذلك يعود لوجود مخزون تراثي هائل من الأغاني والألحان والألوان الشعبية استند عليها الفنانون والملحنون وكتاب الأغنية، تنوع مثير في تفاصيله الصغيرة، ففي كل مدينة ومنطقة في المملكة لون وغناء وحداء ورقصات خاصة بها جعلت من هذه البلاد لوحة فريدة وأعطتها ميزة قد لا تتوفر لغيرها، كما أن الاهتمام الكبير الذي أولاه الملوك والأمراء ساعد هو أيضا في انتشار وتقوية الفنون، وبالأخص مع دخول صناع الكلمة العذبة من الأمراء كخالد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن وغيرهما الكثير.

لقد حقق ذلك طفرة غير مسبوقة ودفع بالقوة الناعمة للسعودية نحو آفاق أوسع استطاعت معها اكتساح العالم العربي بالرغم من ثقل وقدم الفن الغنائي المصري واللبناني اللذين كانا أسياد الذائقة في تلك الفترة، لقد كان مذهلا أن نكون موجودين في العالم العربي بجانب محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وفايزة أحمد ووردة الجزائرية وفيروز، ونأخذ مساحة ضمن ذلك المسرح المزدحم بالعمالقة، بل إن أغنية «ليلة ليلة» لمحمد عبده على سبيل المثال تحولت لموسيقى شعبية عالمية ترددت في أوساط الفرق الغربية بكثافة.

لعلنا نتذكر أن في عقدين فقط تزامن فنانون كبار مثلوا الطبقة الأولى للغناء في المملكة على رأسهم طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد ومحمد علي سندي وعيسى الأحسائي وسلامة العبدالله ومحمد عبده وطلال مداح وعلي عبدالكريم ومحمد عمر وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله وراشد الماجد، ومن الفنانات توحة وابتسام لطفي وعتاب، إضافة إلى ملحنين وكتاب أغنية كسراج عمر ومحمد شفيق وعمر كدرس وإبراهيم خفاجي كان يحج إليهم فنانو العالم العربي.

اليوم ومع بداية انفراج الساحة أمام الفنون بكل أشكالها يبدو أننا بحاجة لمكائن ضخمة لا تقوم بإقامة الحفلات للجمهور فقط، بل بإعادة رسم الخارطة الفنية السعودية وبناء شخصيتها واكتشاف المواهب، وبنظرة فاحصة للساحة نجد أننا أمام بقايا فناني الثمانينات ولا يوجد الآن من يلتقط منهم الموهبة ويكمل المشوار.

من هنا أتمنى من الأستاذ تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة وعضو مجلس إدارة الهيئة العامة للثقافة القيام بدور «عراب» الفن السعودي، فما قام به من حراك ونجاحات للرياضة والكرة السعودية خلال أقل من عام، إضافة إلى كونه شاعراً متميزاً ومتذوقاً للفنون، يؤهله لذلك.

أظن أننا في حاجة اليوم لأن تبقى الساحة الغنائية السعودية زاخرة وممتدة في العالم العربي، بل إن الفرصة مواتية لتسيدها مرة أخرى فما يحصل اليوم هو طفرات غنائية لا تلبث أن تنطفئ.

تركي آل الشيخ من خلال هيئة الثقافة وعضويته فيها قادر ليس على تحريك المناخ الفني في المملكة فقط، بل المساهة في بنية فنية قوية قادرة على إعادة الأغنية السعودية لهيبتها.

نحن بحاجة لمعاهد وكليات لتعليم الفنون، وبرامج تساعد في اكتشاف المواهب، وأيضا إلى إدخال الموسيقى للمدارس وجعلها جزءا من المكون التعليمي.

يجب أن لا ننسى أننا أمام تحد كبير خلال سنتين من الآن، فدار الأوبرا السعودية ستنشأ خلال فترة وجيزة كما أعلن، وهذه الأوبرا تحتاج ليس فقط إلى مبنى جميل، بل إلى عازفين سعوديين محترفين يكونون نواة الفرقة الملكية الأوبرالية السعودية، وهذا لن يتم إذا لم نكتشف وندعم ونعلم ونبتعث المواهب، حيث أعرق المعاهد والكليات الموسيقية في العالم.