هيثم نعمان

 تعود البدايات الأولى لنشأة الصراع السياسي في العالم الإسلامي بين العراق وسوريا إلى زمن الفتنة الكبرى، والصراع الثنائي على السلطة، بين مدرسة أولى بقيادة الإمام علي بن أبي طالب وثانية بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وقد كان صراعا دموياً، أفرز خلافا سياسيا تاريخيا، ما زالت امتداداته إلى يومنا هذا، والمتمثلة في الخلاف السياسي الشيعي ـ السني، والصراع التركي ـ العربي ـ الإيراني. والحقيقة أن تعريف الصراع القائم حاليا في سوريا والعراق؛ على أنه صراع طائفي؛ هو تعريف سطحي وساذج، إذ أنه صراع يتسم بشكلين يتخذان من الغطاء الطائفي دعاية وتسويقا سياسيا لهما. فالشكل الأول يتمثل في الصراع بين المدرسة البعثية النازية ومدرسة الفاشية الإسلامية، وأما الشكل الثاني فيتمثل في الصراع الاجتماعي الطبقي. وكلا الشكلين يبرران صراعهما طائفيا، عبر وسائل الإعلام؛ لحشد وتجييش الجماهير والتلاعب بعقولها عاطفيا.

ففي العراق وبعد عام 2003، ولأول مرة في التاريخ السياسي للعراق؛ تتشارك الأحزاب الإسلامية الشيعية السنية معا، في انتخابات واحدة؛ لتصميم عملية سياسية جديدة، وكان هدفها الأسمى هو الحصول على مناصب سياسية. وفعلا، تشكلت أول حكومة عراقية منتخبة، تأتلف من إسلاميين شيعة وسنة، وقد كانت المناصب الرئيسة من نصيب الشيعة، مثل: رئاسة الوزراء ومناصب أمنية مهمة، في حين تمثل نصيب السنة في مناصب عليا، من أهمها: منصب نائب الرئيس، ونائب رئيس الوزراء فضلا عن وزارات أخرى مهمة. وبهذا يتضح لنا فعلا، أن الإسلاميين السنة والشيعة ليسوا في حقيقتهم سوى حلفاء يجمعهم طمع وحب المناصب الحكومية، وليسوا كما يظن البعض من أنهم أعداء، يحكمهم التنافس والصراع والخصومات السياسية. بل إن الواقع أثبت اتحادهم وتشابك مصالحهم ضد عدو واحد، والمتمثل في البعثيين أو المدرسة النازية البعثية، إذ أنهم كانوا وراء إصدار قانون اجتثاث البعث، في تصد مشترك لهذه المدرسة، وهو الأمر الذي يجسد مظهرا من مظاهر الصراع الحقيقي في العراق، بين مدرستين إسلاميتين: فاشية سنية شيعية في مقابل بعثية نازية، على عكس ما يروجه الإعلام من صراع بين الإسلاميين السنة والشيعة.

ولقد اتخذ الصراع في العراق أيضا، صراعا طبقيا اجتماعيا، حيث شكل البعثيون طبقة أصحاب الشهادات العليا والدخل المالي العالي والوظائف الحكومية، نتيجة هيمنتهم على الحكم بالعراق لأكثر من أربعين سنة. أما الإسلاميون من السنة والشيعة فقد كانوا مستهدفين من البعث؛ لذا تخلفوا وأصبحوا بعيدين عن الوظائف والشهادات العلمية، كل ذلك ساهم في صناعة طبقتين اجتماعيتين في العراق: الطبقة العليا من البعثيين ذوي الدخل ومستوى التعليم العالي، في مقابل الطبقة الدنيا اجتماعيا وتعليميا، والتي تمثلت في الإسلاميين. وهذه المكونات نفسها نجدها تؤثث الصراع في سوريا، ولكن بشكل معكوس، فالطبقة الأولى تتمثل في الإسلاميين السنة، أي: المدرسة الإسلامية الفاشية، والتي تتمركز في الريف السوري، وهي التي أثارت غضب نظام الأسد الذي يمثل المدرسة البعثية النازية في المدينة. أي أن الثورة السورية التي تحولت لصراعات إقليمية، ومن ثم، دولية، لم تكن في أساسها إلا صراعا بين مدرستين فكريتين رجعيتين، مثلما هو الحال في العراق.

وأما من الناحية الطبقية، فإن الثوار الإسلاميين يتشكلون من سكان الريف والطبقات الاجتماعية والفلاحين ذوي الدخل المحدود، على عكس ذوي النفوذ والسلطة العلويين الشيعة الذي يمثلون الطبقات ذات الدخل المرتفع، والمحتكرة للوظائف العليا وللمجال التعليمي في دمشق وباقي المدن السورية الرئيسة. وهذا ما يفسر سر دعم سنة دمشق من ذوي الطبقات العليا، لنظام الأسد ووقوفهم بالضد من سنة الريف المختلفين عنهم طبقيا. وبهذا يتضح لنا بأن الثورة السورية هي أيضا، ليست سوى مظهرا من مظاهر الصراع الطبقي، بين الطبقات الريفية والطبقات العليا من المجتمع السوري الذي يقوده الأسد.

إن كلا من الفكر البعثي والإسلامي في العراق وسوريا لم يصلا إلى الانهيار الشديد؛ مثل الذي وصلت إليه الشيوعية بعد فشلها. ويرجع ذلك إلى أنهما ليسا بأيديولوجيات سياسية، وإنما هما بمثابة فكر يمثل مجتمعات مرتبطة مع بعضها البعض، والتي تتخذ أحيانا أشكالا سياسية، ولكنها تبقى في النهاية، مجرد مجتمعات تتصارع بأشكال متعددة، تصل أحيانا إلى العنف. وهي مجتمعات تنقسم لطبقات اجتماعيه عليا ووسطيه ودنيا، وهذا ما يؤدي إلى صراع ذي شكلين: شكل اجتماعي مغلف بالمدرستين الإسلاموية والبعثية، وشكل طبقي يحتدم بين الطبقات العليا والدنيا، ويستحيل القضاء على هذا الوضع؛ لأن الأمر يحتاج في حد ذاته إلى القضاء كليا على المجتمعين العراقي والسوري، ولكن قد تكون الحلول الوسطية هي الأنجع؛ للتخفيف من هذا الصراع وتذويبه بالتدريج. 

هكذا يمكن القول أنه لا سبيل لانفراج الأزمتين العراقية والسورية؛ إلا بمقاربة تفهم أولا، طبيعة الصراع الذي لا يعتبر في الأساس صراعاً سنيا- شيعيا؛ رغم الدعاية لهذا التصور، وإنما هو صراع بين مدرستين سياسيتين تقليديتين مختلفتين، وهما ليستا بإيديولوجيات بقدر ما أنهما تمثيل لمجتمع ذي تقاليد اجتماعية متباينة بين الإسلامي والعلماني. وكلاهما يتسم بالتعصب والعنف. ومن أهم الحلول المنطقية لإنهاء هذا الصراع؛ هناك ثلاث خطوات:

الخطوة الأولى تتمثل في المصالحة بين المجتمع المتعصب بعثيا في العراق وبين النظام السياسي الإسلامي الشيعي والسني، أما الخطوة الثانية، فتتمثل في العمل على دعم الفكر الليبرالي في كلا الدولتين؛ مما سيساعد على ذوبان الأفكار الاجتماعية المتعصبة البعثية والإسلامية وتراجعها تدريجيا خاصة بعدما ستثبت فشلها أثناء سير عملية التغيير، وأما الخطوة الثالثة، فتتمثل في ضرورة استمرار الدعم الأمريكي لكلا الدولتين؛ حفاظا على استمرارية المصالحة المنشودة، وتثبيتا لأعمدة الاستقرار والسلام.

معهد واشنطن