رضوان السيد 

تكثر دائماً في رمضان الدعواتُ لعمل الخير، وصار الدعاة والخطباء يوردون إضافةً لنصوص الكتاب والسنة، مبادئ عامة في طليعتها: مقاصد الشريعة لحث المحسنين على البذل للمؤسسات الخيرية. وفي الأيام الأخيرة في بيروت وصيدا بلبنان، أقامت جمعيتا المقاصد الخيرية الإسلامية في المدينتين، وهما جمعيتان «خيريتان» أُنشئتا في القرن التاسع عشر لتشجيع التعليم الجديد، وتملكان عدة مدارس مجانية، مأدبتي إفطار للعاملين فيهما وللضيوف الذين يتبرعون لهما في هذه المناسبة السنوية. وقبل أيام، وفي إحدى الوقائع بين شرطة العدو الصهيوني والمصلّين بالحرم القدسي، قيل إنّ جريحاً نُقل إلى مستشفى المقاصد بالقدس.

أُطروحة المقاصد هي أطروحةٌ فقهيةٌ قديمةٌ قادها فقهاء المالكية، دون أن تغيب عن سائر المذاهب، وكان ذلك بعد أن نضجت البحوث في الفقه الإسلامي وأصوله، فوصل الحديث إلى الأهداف والغايات، بقصد إنتاج نظرية عامة في التشريع، بعد أن كان الحديث في القرون الأولى عن «العِلَل» التي تقف وراء إنتاج الأحكام. وعلى أي حال، ومنذ القرن الخامس الهجري تردد في كتب أصول الفقه الحديثُ عن أنه من مقاصد الشريعة صون النفس والعِرض والمال. وأُضيف إلى هذه الأصول الثلاثة فيما بعد أصلاً العقل والدين. واشتهر في شرح هذه الأطروحة المتقدمة الفقيه المالكي أبو إسحاق الشاطبي (القرن الـ15 الميلادي)، في كتابه «الموافقات في أصول الشريعة».

بدا الأمر حتى النصف الثاني من القرن الـ19، كأنما مسألة المقاصد أو المصالح هي موضوع فقهي أصولي بحت. لكنّ خير الدين التونسي استخدمها في مقدمة كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، الصادر عام 1867، بمعاني جديدة: معاني التجديد الفكري والنهوض المؤسَّسي في التعليم العام والصحة، وإنشاء الوزارات والوكالات المختصة، والشركات الصناعية والتجارية.. وحجته أنّ الأوروبيين فعلوا ذلك فتقدموا، وأنّ المصالح المستجدة في الزمان والمكان تقتضي ذلك لدى المسلمين. فالعيش ركنان: ركن دنيوي، وركن ديني، وإذا اختلّ الركن الدنيوي (كما هو حاصل) فيوشك الركن الديني أن يختلّ، ولذا تتعين الاستجابة لنداء النهوض والتقدم وصون المصالح العامة أو تطويرها حفظاً للدين من الاختلال، وللشريعة من الزوال!

ما انتشرت فكرة خير الدين ربما لأن كتابه لم ينتشر أو لأنه ليس فقيهاً، حتى كان عام 1884 فطبعت مطبعة الدولة بتونس كتاب الموافقات للمرة الأولى. ورآه الإمام محمد عبده، فحمله معه ودار به فيما بين بيروت وباريس ودمشق والجزائر ومصر، وتحدث عن نظرية المقاصد باعتبارها ثلاثة أمور: نظرية في طبيعة الدين الإسلامي (الخير والرحمة والمصلحة)، ونظرية في جريان الأحكام على المصالح، والمصالح متغيرة؛ لذا تتغير الأحكام بتغير الزمان. والأمر الثالث هو أنّ النهوض وصنع التقدم واجبٌ شرعيٌّ أو تكليفٌ لا يُعفى قادرٌ منه. وما أن أتت تسعينيات القرن التاسع عشر حتى كانت عشرات المؤسسات تحت اسم المقاصد قد ظهرت في كل مكان، تأكيداً على الإرادة النهضوية والتجديدية، وعلى اعتبار رؤية الخير العام أساساً في الدين الإسلامي.

لقد كثر التأليف في المقاصد بعد وفاة عبده عام 1905، وجرى اكتشاف عدة نصوص قديمة في المصالح والمقاصد. ومرت البحوث في ذلك بثلاث مراحل: مرحلة القراءة التسجيلية والمدرسية، باعتبار «علم المقاصد» جزءاً من علم أصول الققه. والمرحلة الإحيائية الإشكالية فيما بين الطاهر بن عاشور في الأربعينيات وعلاّل الفاسي في مطلع السبعينيات. وقد قلتُ إنها إشكالية رغم جدّتها لأنه كان هناك مَنْ قال إنّ تعظيم المصالح المقصود به الخروج على نصوص الشرع، بينما يقول ابن قيم الجوزية: حيثما تكون المصلحة فثَمَّ شرعُ الله! وفي المرحلة الثالثة انطلقت نهضةٌ إبداعيةٌ في قضايا ومسائل المصالح استمرت حتى اليوم. وقد صارت مهمتها الرئيس: مصارعة التشدد والانغلاق والخروج منه باتجاه التوسط والاعتدال والخير العام للبشرية جمعاء.

«شاخت» تحدث عن التقليد الحي في الفقه، و«هوبسباوم» تحدث عن اختراع التقليد مع ما في ذلك من تناقض. المهم أنّ «التقليد» أو العُرف صار عندنا، وفيما بين الشام والمغرب، أن المقاصد أمران: عمل الخير، والدعوة لإنشاء مؤسسات النهوض والتقدم.

وقبل شهرين أعلنت مؤسسة جائزة الملك فيصل الشهيرة أن موضوع الجائرة هذا العام والذي يجري التباري حوله هو مقاصد الشريعة.