علي العميم 

غفل الدكتور أحمد العيسى عن توضيح أن قضية الجهاد المكرسة في وثيقة سياسة التعليم السعودي مطروحة على أن الجهاد الإسلامي جهاد ابتدائي يقوم على المبادءة والمبادرة والهجوم، أو هو - كما ذهبتُ في ظني في المقال السابق - تحاشى طرح مشكلة الجهاد في الوعي الإسلامي المعاصر، وخشي مجابهتها، فتناولها بقدر كبير من الحل التبسيطي، رغم خطورتها التي مسّ ضررها أول ما مسّ الدولة المصرية ابتداءً من منتصف سبعينات القرن الماضي. وكان يُفترض أن يمسّ الدولة المصرية ضررها في منتصف ستيناته لو أن الحكومة المصرية في ذلك الوقت لم تكتشف التنظيم السري المسلح الذي يقوده سيد قطب، قبل أن ينفّذ خطته الانقلابية الإرهابية. ولم أشر هنا إلى الضرر الذي مسّ الدولة السعودية في عقد سبعينات ذلك القرن، بسبب أن تنظيم جهيمان العتيبي السري المسلح لم يتأثر على نحو ما بالأدبيات الإسلامية الانقلابية، وبما قاله أبو الأعلى المودودي وسيد قطب على وجه التحديد في مسألة الجهاد الإسلامي.

إن الجهة المستهدفة في الجهاد الإسلامي في تنظير المودودي وفي تنظير تابعه سيد قطب، والتي من أجلها أحييا الجهاد الإسلامي بمعناه الهجومي والتوسعي، هي جهة خارجية. هذه الجهة هي - بالدرجة الأولى - الحكومات والمجتمعات الغربية. ومع أن هذه هي الجهة التي كانت في ذينك التنظيرين هي المستهدفة فيه، إلا أنه ارتدّ إلى جهة داخلية هم الحكام المسلمون. ولقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً ليطال ضرر هذا الجهاد الجهة التي كان يستهدفها بالأساس. وهي - كما قلنا - الحكومات والمجتمعات الغربية.

قد ترى النظرةُ العجلى والنظرةُ الظاهرية، أن هذا الأمر ينطوي على مفارقة ساخرة. وقاد هذا الأمرُ آخرين - ككارن أرمسترونغ - إلى استنتاج خاطئ وهو قولها: إن «سيد قطب والذي يتبع آيديولوجيته معظم الأصوليين السُّنة، لا يكنّ محبة للغرب، ولكنّ جهاده كان موجهاً بشكل رئيسي ضد الحكام المسلمين مثل جمال عبد الناصر».

تلقف استنتاجها الخاطئ هذا ممسوسٌ بسيد قطب - والممسوسون به كثر في العالم الإسلامي - بفرح في رسالة ماجستير أعدها عن «الجهاد عند سيد قطب: هل هو تحرير مشروع أم إرهاب مذموم؟»، فنقل ما قالته مع تحريف في الترجمة وزيادة فيها، واستند إليه في نفيه أن سيد قطب لم يصدر في مقاربته للجهاد عن حقد على الغرب وحضارته ومكتسباته، وفي ادعائه «أن العديد ممن يزعمون اتباع سيد قطب هم في الحقيقة ليسوا كذلك. وهو منهم براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب»!

لنحاول أن نفهم هذا الأمر، وهو لماذا كانت الأولوية في الحركات الإسلامية في العالم العربي للجهاد ضد الداخل أو ضد الوطن، وليست للجهاد ضد الخارج - أو كما قال الممسوس بسيد قطب في ترجمته المحرفة المزيدة - ضد العدو الأجنبي.

ثمة خصوصية هنا للدعوة الإسلامية في تاريخها القديم وفي تاريخها المحدث.

الخصوصية هي أنه رغم أن الدين الإسلامي دين دعوي أو تبشيري، فإنه لم يعرف في تاريخه ما عرفته المسيحية الغربية من بعثات وإرساليات دينية منذ القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين للتبشير في الإنجيل في البلدان غير المسيحية. وهي ما تسمى البعثات والإرساليات المسيحية.

إن كلمة الداعي التي وردت في القرآن بلفظ «داعي الله»، ظهرت بوصفها لقباً في أواخر دولة بني أمية مع الدعوة العباسية في طورها السري حين كانت هذه الدعوة دعوة شيعية، تسعى إلى تقويض خلافة بني أمية وحكمهم. فضمّت كل المعارضين لهذه الخلافة وهذا الحكم تحت شعار الرضا من آل محمد.

مع الدعوة الإسماعيلية والقرمطية والدرزية وقبل هذه الدعوات الثلاث مع الدعوة العباسية في طورها السري، أخذت تلك الكلمة معنى اصطلاحياً. فالداعي في تلك التجارب هو من يقوم ببث الدعوة وتنظيمها في أقاليم بعيدة عن مركز الخلافة بشكل سرّي. وأشهر داعٍ في تاريخ الإسلام هو عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية.

في الدولة الفاطمية تحولت الدعوة إلى وظيفة حكومية دينية يرأسها ويدير شؤونها داعي الدعاة. وداعي الدعاة هذا يلي في رتبته الحكومية الدينية في دواوين الدولة، رتبة قاضي القضاة. ويحتل الداعي عند الدروز رتبة دينية غير عليا.

نخلص من هذا إلى أن الدعوة والداعي في التاريخ الإسلامي القديم ارتبطا بالدعوات الشيعية السرية. وأن الدعوة عبارة عن دعوة دينية ودعوة سياسية. والأولى هي مطية أو وسيلة لتحقيق الأخرى. وأن الداعي هو من يقوم بتنفيذ هذه المهمة بسرية تامة. وأن نشاط الدعوة والداعي الديني نشاط سري محصور بين المسلمين ولا يتجاوزه إلى غيرهم.

الحركات الإسلامية المعاصرة هي - أيضاً - غير معنية بتبليغ دعوة الإسلام إلى غير المسلمين ونشرها بينهم. فعملها الديني الدعوي ذو المحتوى السياسي يتركز في الداخل الإسلامي. فالداعية - هذه الكلمة صيغة أخرى للداعي، وحلت محلها في العصر الحديث - اهتمامه منصبٌّ على دعوة المسلمين إلى الإسلام من جديد، كما في عنوان شهير لرسالة من رسائل أبي الحسن الندوي الذي نذر نفسه مبعوثاً دينياً للإسلام السياسي في البلدان العربية.

إن المبشِّر في الديانة المسيحية يقابل الداعية في الديانة الإسلامية. لكن بسبب تلك الخلفية التاريخية وبسبب اختلاف جوهر عملها يبرز فرق بينهما، وهو أن الأول عمله موجه إلى ما هو غير مسيحي وأن الآخر عمله موجه إلى ما هو مسلم. وأن الداعية - إلا في ما قلّ - صاحب دعوة دينية ودعوة سياسية.

لنتقدم خطوة في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه آنفاً.

حين أفلح المودودي وسيد قطب في جعل الجهاد الهجومي عقيدة مركزية في الإسلام لدى الإخوان المسلمين وسواهم من الحركات الإسلامية، كان هذا الصنيع يترافق أساساً في الخطاب الإسلامي الحركي مع تعبئة وشحن وتحريض شامل ضد الغرب وضد الدول العربية والدول الإسلامية من رؤسائها وملوكها إلى أغلب أجهزتها وقطاعاتها، إما علناً وإما سراً.

هؤلاء في عمومهم كما في أدبيات ذلك الخطاب طبقة أنشأها المستعمر الغربي لترث حكم البلدان العربية والإسلامية من بعد رحيله، بعد أن صاغ عقليتها وثقافتها ونمط تفكيرها، صياغة غربية. وأن الجيل الأول من هذه الطبقة أعقبته أجيال في الحكم والإدارة أشد اندفاعاً وحماساً في تبني الثقافة الغربية والبُعد عن الإسلام!

أي أننا أمام تعبئة وشحن وتحريض متوازٍ ضد الغرب وضد أغلب الدول العربية والإسلامية الآخذة بالتحديث الغربي. فعداوتهم لهذه الدول عداوة متفرعة عن عداوتهم للغرب. وهم لا ينظرون إلى جمال عبد الناصر وإلى عدد من زعماء الدول العربية والإسلامية، بوصفهم حكاماً مسلمين، بل يعتبرونهم منحرفين عن الإسلام ومارقين عن سبيله.

الجهاد الإسلامي ضد الغرب لكي يبدأ يحتاج من منظورهم إلى قيام دولة إسلامية حقة، وإلى إذن من وليّ الأمر فيها بعد أن تقوم هذه الدولة، للسماح لهم بالانطلاق فيه. هكذا كانوا يفكرون.

ولإقامة هذه الدولة كان لا بد من الخروج على السلطة الشرعية أو السلطات الشرعية في بلدانهم.

تزوّدنا محاضرة ألقاها مطلق شرارة الإسلام الجهادي، أبو الأعلى المودودي بمسجد الدهلوي في موسم الحج أمام جمهرة من الشباب القادمين من بلدان عربية وإسلامية شتى في منتصف عام 1962، بمعلومة عن تخمُّر فكرة الخروج على السلطة الشرعية في البلدان العربية.

هذه المحاضرة اسمها: «واجب الشباب المسلم اليوم»، وللحديث بقية.