"هل قرأت مقال ميشال أبو جودة؟".. "لا". "اقرأه لأنه مهم". هكذا تحدث الرئيس جمال عبد الناصر مع وزير الإرشاد القومي محمد فائق، بحسب مذكرات الأخير "مسيرة تحرر" عن مركز دراسات الوحدة العربية. ومن جوزيف أبو خاطر سفير لبنان لدى القاهرة عرف أبو جودة مدى الاهتمام بقراءة كتابته عن "جموح" لا "طموح" سياسات قرائه الكبار، والتغاضي الدولي عن التجبر الإسرائيلي على فلسطين ولبنان.. والعرب.

كيف شدهم ميشال أبو جودة، ومن هو؟

كاتب صحافي لبناني، ولد في كانون الأول (ديسمبر) 1933، تولى رئاسة تحرير جريدة "النهار" من سنة 1971 حتى وفاته سنة 1992. قديس الصحافة العربية الأستاذ غسان تويني سماه "أستاذ التعليق السياسي" واعتبره تلميذه بحق تعليماً وعملاً، وبحسب "سر المهنة وأسرار أخرى" - أفشاها تويني - ثبَّت احتلال عموده يسار الصفحة الأولى للجريدة.

عن عموده الشهير "من حقيبة النهار" كتب أبو جودة: "إنه سجن كبير أكتبه طوال الأربع والعشرين ساعة، لا كل أربع وعشرين ساعة. وأعرق خوفاً من خطأ الاستنتاج، وأموت نصف موتة مع الخطأ الفاضح". إنه أشد حادث معنوي يتعرض له ككاتب مسؤول. مع تعرضه لحادثين ماديين هما:

اعتداء وضع أثره على وجهه سنة 1959 بسبب مقالة، مع أن كلامه مليح بلا تجريح.

ثم اختطافه وكسر يده اليمنى صيف 1974، وقد ربطوا اختطافه باغتيال صديقه الأستاذ محمد أحمد نعمان نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اليمني السابق، بحسب مذكرات الرئيس صائب سلام.

"ماذا فعلت؟" سئل سياسي فرنسي بعد الثورة الفرنسية "لقد بقيتُ حياً".. هكذا أجابهم، ومثله أبو جودة. بعد اختطافه لخمسة أيام عاد يكتب شارحاً دفاعه عن نفسه بسلاحه الوحيد لسانه، كتب به مقالات شفهية على صفحات آذان خاطفيه. سمع منهم صيحات مقاطعة واتهام، ولم يرَ وقع حديثه على وجوههم، لأن العِصابة أبقت العُصابة على عينيه طيلة الاختطاف الذي جعل كاتب الخبر محور الخبر، ثم تبين له أن ثمن عودته حرمانه من السبق الصحافي وحرمان قرائه.. كما حُرِموا مقالاته.

"من حقيبة النهار" خرجت تعليقاته على أحداث تلك الحقبة لأنه "لم يترك حدثاً من دون أن يمر عليه بقلمه، وإذا بالمقال كأنه الحدث يُرشِد إليه وينبئ به"، بحسب ميشال هليل معد وجامع كتاب "207 مقالات وتاريخها".

كتابته الموضوعية بسلاسة أسلوب تعززها جودة استشهاده بمأثورات منوعة تجسد مزايا وطنه الصغير ذي الدور الكبير لبنان ورسالته: التعايش والتسامح، إذ إلى جانب آيات الإنجيل، يسترشد بأصح الأحاديث وفصاحة القرآن ليصوغ أبلغ بيان يصف الأوضاع المعقدة ببساطة.

وببراعةٍ خلص بالمعلومات والوقائع إلى استنتاج منطقي وعبقرية في قسوة الانتقادات الساخرة أحياناً، ما أهّل عموده لأن يتصدر اهتمام كبار سياسيي العالم، وترجمته وتعميمه على مستويات دولية عليا لما فيه من تحليل للوضع العربي والدولي مع تركيز على الهم الوطني اللبناني.

من الأندلس للقدس لبحر العرب .. بيستنظرو اللي بتكتبو كل العرب

يا فلتة الأجيال يا بدر المنير .. يا خير من في لغة بلادي كتب

اللي بتكتبو بيعادل الدر النضير .. وبيسجلو التاريخ بحروف الدهب

انت الأمير وما في حدا متلك أمير .. ولما العباية قبلتها كانت حرير

ولما لبستا أصبحت تاج العرب (داوود أبو جودة).

إيمانه بعروبة المنطقة وديموقراطية لبنان شغله بتتبع الشؤون اليمنية. وواكب طبخات حل "اليمننة": الأزمة اليمنية من بواكيرها. وبوضوح رؤية استشرف مستقبل الانقلابات، علاوة عما يكتنف حاضر الملكيات ومستقبلها من غموض. وبمراعاة التحفظات عقد المقارنات. وعرف العرب الجدد من دون نسيان عرب الرعيل الأول، بحسب منح الصلح الذي يذكر قول ميشال أبو جودة: "لا نريد أن نكون خائفين ولا نريد لغيرنا أن يكون مخيفاً".

على نحو مبدع ابتكر مفردات جديدة، صاغ آخر السبعينات اسم "نفطستان"، وقبلها أول الخمسينيات لفظة "اللبننة" مرادفةً التأرجح والبلبلة، وتعبير "العسكريتاريا" بعد نكسة 67 "العربي التائه" كما سماها مستبقاً زميله الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي حمل كتابه العنوان ذاته سنة 2002 عن دار الشروق، بعد تسع سنين من إصدار دار النهار "العربي التائه" و"السنوات اليتيمة" 1993. والعربي التائه مسه ضُرٌ فَورث اليهودي التائه الذي ضَرّ السيد المسيح وعوقب بالتيه إلى الأبد في الأرض..

عنوان آخر جمع الزميلين ذوي الأسلوبين الرائدين والمختلفين، هيكل بمقالاته المطولة التي تُغني الكتب، وأبو جودة بمقاله الذي قد يُغني عن كُتُب، وبعناوين تُخلد أسماء.. تخيلوا أحدها صار اسم برنامج شهير بقناة الجزيرة: "مع هيكل" وضعه ميشال بعد اعتقال هيكل سنة1981 يصف لقاءهما معاً في باريس بحضور الصحافي غسان شربل. كان ذا نظرة استباقية تجاه حريات الصحافة والصحافيين والإصلاح الديموقراطي العربي.

ضمن 10000 مقال، كشف "السر الصغير" الذي يخبئه الساسة (كل الساسة في كل مكان): "كل شخص يحاول حل العقدة هو عقدة بحد ذاته.. كل مرة يقال إن على السياسيين أن يقدموا مصلحة الوطن على مصالحهم. ولكن السياسيين لا تهمهم كثيراً مصلحة الوطن إذا كانت ضد مصالحهم. إن مصلحة السياسيين أهم وأقوى من مصلحة الوطن". ومثلها "إشراك كل العالم بأزمة الشرق الأوسط، فتفتيشهم عن حل يخلق مصلحة في التعقيد أملاً في حصة عند الحل"، بحسب أبو جودة.

بما له من باع كبير في الشأن الفلسطيني وقول خطير عن النزاع العربي الإسرائيلي ككل، نَقَدَ نظرة الغرب إلى العرب والعكس، وكيف يتحول العرب من "كمية مهملة إلى كتلة مهمة"، وقال: "إن العرب عرب في حساب إسرائيل لا رجعيين ولا تقدميين، لا ملكيين ولا جمهوريين". مبيّناً "أن ميل العالم الخارجي لتصديق وترويج مقولات إسرائيل عن عملياتها تجاه الفلسطينيين يشجع إسرائيل على الاستمرار". ذلك عن أحداث سنة 1973 في لبنان. وفي 1969 كتب عن "رفض مجلس الأمن الدولي تحت ضغط أميركا: الصديقة العزيزة جداً لإسرائيل معاقبة الأخيرة مكتفين بإدانتها وتحذيرها"، وفي سنة 1956 قال: "إن سقوط غزة كارثة وطنية".. لا شيء تغير على ما يبدو.

زاد أبو جودة بياناً: "إن إسرائيل التي تود إلغاء الآخر، باعتدائها على الفلسطينيين وقياداتهم بنوع خاص، لا تنهي الحركة الفدائية أو المقاومة بصورة عامة".. هل يخطئ قائل هذا إذا دعا أيضاً "إلى أن يكون هناك فهم للواقع، واقع العدوان، والواقع العسكري الإسرائيلي، كي لا تبقى الأمور والمواقف ارتجالية أو عاطفية أو مرتكزة على أوهام وتخيلات".. العدوان ما زال مستمراً.. ماذا عن غياب فهم الواقع..؟

مثلما شخّص مرض المحيط العربي حدد مريض المحيط الدولي: "إنه ليس الشرق الأوسط، إنه عالم الكبار (أي الدول الكبرى) من يُحركون قضايا هم فيها مَدينون أكثر منهم دائنون"، ومنها "الحروب النظامية المقبلة بين الرفاق".

إذ يُقِر تكرار الحوادث ينبه لعدم التماثل، ويقول: "إن النفع كل النفع ليس في الحديث عما حدث، بل عما يحدث الآن أو بالأحرى عما يجب أن يحدث كي لا يتكرر حدوث ما حدث". لكن مأساة التاريخ الإنساني وملهاته تكمنان في أن "يتكرر حدوث ما حدث". لا يخفف وقع التكرار سوى استذكار مقالات مَنْ بالكلمةِ "جاهد الجهاد الحسن، وأكمل شوطه وحفظ الإيمان" بالحرية والديموقراطية والعدالة والحق والدستور والسلام للإنسان، وأبدع القول واستحق الترحم عليه مع أوائل ما تركوا كلمةً لقائل.