لم يكن هجومُ موسكو مفاجئاً للمتابعين؛ احتمالات تصعيد التنظيمات الإرهابية كانت متوقعةً منذ صيف 2021 بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، هروب أميركي حشد الدول بغية «ملء الفراغ»، وضرورة ملئِه بعد الانسحاب فكرةٌ طرحتها روسيا تحديداً، كانت تعلم أنَّ الإقليمَ متصدّع وقابلٌ للاشتعال، «طالبان» بسطت سيطرتَها على أفغانستان وتمكَّنت من تهديد المنافسين أو المناوئين وسط رضا أميركيٍّ، ومشهورٌ قولُ جون برينان «إن (طالبان) جزءٌ من النسيج الأفغاني»، وبايدن طرح فكرةَ «التعايش مع (طالبان)».

استفادت «طالبان» من هرولةِ دول الإقليم إليها، الصين تريد ضمانَ عدم تدريب «طالبان» للإيغور مجدداً، ووعدتْها بذلك، والهند تتَّصل بها وتتبادل معها المعلومات، و«طالبان» - كما كشف مديرُ الأمنِ القومي الأميركي في عهد ترمب فليتز - ستسمحُ للدبلوماسيين الروسِ بالدخول، إنَّها الرابح الأكبر من كل تلك الحومة التي صاحبت غبارَ الانسحاب، وتريد الاعترافَ الدولي بها بأسرع وقت، وهي شغوفة بأن يكونَ الاعترافُ الصيني بها هو مدخلَها نحو الساحة الدولية.

والهجوم على موسكو كأي حدثٍ كبير، تصحبه سيناريوهات وتحليلات متضاربة، كالذي حدث بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، التأويلات وأحاديث التآمر وصلتا حد الإغراب في الاستنتاج، وكذلك حادث موسكو أنتج الكثيرَ من التحليلات والاحتمالات، وأثمر النقاش السياسي هذه الضروب الثلاثة:

التحليل الأول: تتبناه الوكالات والقنوات الروسية، يقولون إن أميركا والغرب لهما يد في هذا الاستهداف، فهما يستعملان العصابات المنفلتة والقتلة المأجورين من أجل تخفيف الضغط على كييف، وحين سأل المذيع ضيفه الروسي عن سبب عدم تبني كييف للهجوم، ولماذا لم تستثمر هذا الحدث بوصفه نصراً ضمن جولة الحرب؟! أجابه بأنَّ أوكرانيا لا تريد أن تبدو وكأنها دولة إرهابية، فهي هنا ستخسر الشعبَ الروسي؛ لأنَّ جزءاً من الحرب محاولة استمالة مشاعر الروس وأخذهم نحوهم، أو كسب بعض تعاطفهم، وينكر أصحاب هذا التحليل وجود حساب لـ«داعش خراسان» على «تلغرام»، بل يعدّون البيان مكتوباً في غرف الأمن الأميركية، وبالتالي لا «داعش» ولا «القاعدة»، وإنما عصابات مرتزقة مأجورة تابعة للغرب، ويجزمون بأن نتائج التحقيق الرسمية ستسفر عن تورط أوكراني غربي بالعملية، ويدللون على ذلك بأن «داعش» تنغمس في القتل من دون وجود خطّة للهرب لأنهم يقتلون باسم الدين بغية الاستشهاد، ولكن القاتل المرتزق هو من يخطط للهروب بعد التنفيذ، ولكن يردّ عليهم بأنَّ الداعشيين الذين استهدفوا إيران قبل فترة تمكنوا من الهرب.

التحليل الثاني: يرى أن «داعش خراسان» بالفعل مسؤول عن هذه العملية، ولكن لا يمكن إنكار وجود «تواطؤ غربي» أو «غض نظر» استخباري أميركي عن هذه العملية، فأميركا تمتلك معلومات رهيبة حول معظم العمليات قبل وقوعها، و«داعش خراسان» صحيح أنه هو الذي نفّذ، ولكن كيف يمكنه فعل ذلك من دون تغطية غربية، واختراق أمني حاذق؟! وبخاصةٍ أن موسكو محصّنة فهي بالأمس القريب كانت مستنفرة أمنياً واستخبارياً بسبب الانتخابات الرئاسية الروسية؟! وعليه يصرّ أصحاب هذا التحليل أن المنفّذ «داعش خراسان»، ولكن كل هذه القوّة على اختراق أمن موسكو، والوصول لمكان نخبوي مرموق مثل المجمع المستهدف، أكبر من قدرات وإمكانيات «داعش».

التحليل الثالث: يرى أنَّ «داعش خراسان» مستنفرة من الأساس، وزادت حدّة طموحها بعد التقارب الروسي مع «طالبان»، وهي على ثأرٍ مع هذه الأخيرة، بالإضافة إلى رغبتها في إصدار صيحةٍ بالإقليم تعلن عن نهوض الفصيل الداعشي من سباته، ولا غرو أن «داعش خراسان» من أكثر أفرع «داعش» حدةً وسطوة، وهو أكثر تنظيم ضم منشقين عن تنظيم «القاعدة»، وله طموحات جغرافيةٍ وبخاصةٍ في أفغانستان، لدى «داعش خراسان» خطة ضد «طالبان» سيبدأها بمحاولة خلق انشقاقاتٍ داخل الحركة كما فعل التنظيم مع «القاعدة»، حيث نجح «داعش خراسان» في تكوين انشقاقات كبيرة استفاد منها، هذا التحدي جعل «طالبان» تسارع نحو التواصل مع الدول المحيطة، بل أصبحت تتعاون في مد المعلومات الاستخبارية للدول التي على علاقةٍ طيبةٍ معها مثل الصين، وربما تستغل روسيا «طالبان» أمنياً ومعلوماتياً بغية استهداف التنظيم الداعشي فهي تملك قواعد بياناتٍ عنهم، و«طالبان» لا محالة ستشتبك مع «داعش خراسان» بطريقةٍ عنيفة إن استمر التنظيم على طموحه في إسقاط حكومة «طالبان» والاستيلاء على السلطة، وعليه فإن كل هذا الجو الحركي المشحون، بالإضافة إلى الاضطراب الذي سببته حرب أوكرانيا، والفراغ الذي سببه الانسحاب الأميركي، وتزايد حيوية الجماعات الحركية والانفصالية، وصعود خطر تنظيم «طالبان باكستان»، والحشد الأفغاني على الحدود الباكستانية، كل ذلك الغليان عبر السنوات الثلاث الماضية أثمر عن هجوم موسكو. هذا التحليل الذي أرجّحه، إنه عمل إرهابي بحت، نعم قد تستثمر به القوى، وقد تحفل به أمم، كما تقنط منه أمم، ولكنه حدث دافعه آيديولوجي، فهو هجوم عقائدي سافر.

الخلاصة أن هذا الهجوم يعبّر عن الذروات التي تصل إليها الجماعات المسلحة بعد طول كُمون، إنها لا تفنى ولا تبيد، ولكنها تعيد تخلّقها وتشكّلها من جديد. «داعش خراسان» قام بهذا الهجوم ولديه مشروع في الإقليم، وقد استطاع تجنيدَ المئات خلال السنتين الماضيتين، ولا يمكن التنبؤ بالحفلة الداعشية التالية، ولكن الأهم الاستعداد الدائم لاستقبال موجات عنف كارثية، لأن الإرهاب سيبقى ما بقيت الفكرة، إنه ثمرة من شجرة، وعلينا قطع الشجرة من جذرها وسحق تربتها، واستئصال شأفتها على الفور.