«الفوز الكبير» الذي حققه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية التي جرت في منتصف الشهر الجاري وحصل فيها على تأييد 76 مليون روسي صوتوا له، ما يمثل 87,29%، هي نتيجة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الروسية، ولكن الغرب نظر إلى هذا الفوز من منظور أحادي سلبي، نددوا فيه بهذه الانتخابات ووصفوها بأنها «غير شرعية»، ووصلت هذه السلبية إلى ذروتها عند الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي اعتبر أن بوتين «مريض بالسلطة، ويفعل كل شئ ليحكم إلى الأبد». وانشغل الغرب في الحيلولة دون تمكين بوتين من الانتصار في حربه مع أوكرانيا على نحو ما اهتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي خطا خطوة إضافية باتجاه مزيد من انخراط الغربيين في الحرب الأوكرانية.

فبعد أن كرر في الأسابيع الأخيرة القول بإنه «لا يتعين استبعاد نشر قوات غربية في أوكرانيا»، وتأكيده أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «يجب ألا يربح الحرب» لأن ذلك «سيشكل تهديداً وجودياً لفرنسا ولأمن أوروبا»، ذهب إلى أبعد من ذلك يوم السبت الماضي في الحديث الصحفي الذي أدلى به لصحيفة «لو باريزيان» خلال رحلة العودة مساء الجمعة من برلين إلى باريس بعد مشاركته في قمة ثلاثية فرنسية – ألمانية – بولندية، عرفت باسم «قمة فيمار»، تزامنت مع إجراء الانتخابات الروسية وخصصت لبحث سبل دعم أوكرانيا ضد روسيا. ففي هذا الحديث، الذي ركز فيه على «الحط من أهمية روسيا» عسكرياً واقتصادياً، ذهب باتجاه مزيد من الدعم النوعي الذي لم يكن يأتي على ذكره في السابق وقال «ربما في مرحلة ما – أنا لا أريد ذلك ولن آخذ المبادرة – يجب أن يكون هناك عمليات على الأرض، أياً كان شكلها لمواجهة القوات الروسية»، وأضاف «قوة فرنسا تتمثل في أننا نستطيع فعل ذلك».

رغم هذه النوايا التصعيدية الأوروبية غير المسبوقة، التي تزامنت أيضاً مع تصعيد أمريكي غير مسبوق، إلا أن ما اجتهدت مجلة «بوليتيكو» الأمريكية في عرضه كسيناريوهات مستقبلية تنتظر روسيا في عهدها الجديد مع الرئيس بوتين يكشف بدقة ما يريده، أو بالأحرى ما يخطط له الغرب بالنسبة لمستقبل روسيا نفسها وليس لمستقبل الحرب في أوكرانيا.

فقد وضعت هذه المجلة أربعة سيناريوهات «سوداوية» للمستقبل الروسي، إضافة إلى سيناريو واحد خامس يرى أن الأمور في روسيا «قد تسير في الاتجاه الإيجابي الذي لا يريده الغرب». أول هذه السيناريوهات هو «ازدهار الحركات المؤيدة للديمقراطية في روسيا، نتيجة السخط الذي سيتولد عن تداعيات الحرب الأوكرانية داخل روسيا، بحيث يؤدي السخط الشعبي إلى ازدهار الحركات المؤيدة للديمقراطية في البلاد، ومن ثم حدوث ما أسمته «الثورة الديمقراطية» في روسيا، ومن ثم إسقاط النظام»، على نحو «الثورات الملونة» التي اجتاحت شرق أوروبا ووسطها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو، وإسقاط النظم الموالية لموسكو وفرض أنظمة موالية للغرب. أما السيناريو الثاني فهو خروج الشعب الروسي للاحتجاج بشكل جماعي على بوتين وسياساته، ما قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية وانتشار الفوضى. أما السيناريو الثالث فهو التمرد العسكري على نحو تجربة «مجموعة فاغنر» وما قامت به عندما وصلت إلى حدود موسكو. السيناريو الرابع والأخير هو اجتماع «دائرة داخلية» من مسؤولي الكرملين مع بوتين وإبلاغه بأنهم يقدرون خدمته، وأنهم يتمنون له التوفيق في التقاعد، أي تنحية بوتين. أما السيناريو الخامس الذي لا يريده الغرب ولا يأمله هو أن ينجح بوتين في مواصلة مشروعه السياسي رغم كل العثرات والتحديات بما فيها الحرب الأوكرانية.

هذه السيناريوهات التي تبدو مجرد اجتهادات نظرية تخفي وراءها ما هو أكثر من الترجيحات، التي قد تصل إلى حد «التخطيط والتآمر ضد روسيا». ولم يهتم الغرب بأن التفويض الشعبي الذي حصل عليه الرئيس بوتين وتوحد الشعب في دعمه يحمل فرصاً مستقبلية جديدة للنهوض بالمشروع الروسي الذي يرمي إلى العودة بروسيا كقوة عالمية عظمى قادرة على فرض معادلة جديدة لنظام عالمي جديد. كما لم يرد في خاطر الغرب مردود هذا التفويض الشعبي للرئيس بوتين على مراجعة الإدارة الروسية للحرب في أوكرانيا بما يعجل من كسب الحرب وفرض الشروط الروسية على نحو ما ورد على خاطر المفكر الاستراتيجي الروسي القريب ذهنياً من الرئيس بوتين وصديقه الفيلسوف إلكسندر دوجين ودعوته إلى «العسكرة الشاملة لروسيا» باعتبارها «ضرورة مطلقة في ظروف الحرب الدموية التي تخوضها روسيا».

هذه الدعوة كانت اجتهاداً نظرياً أو فلسفياً، لكنها يمكن أن تتحول إلى «نهج والتزام استراتيجي» كرد فعل روسي على العملية الإرهابية التي استهدفت المجمع التجاري الروسي «كروكس سيتي هول» في قلب موسكو بعد أيام قلائل من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية، خصوصاً أن الاتجاه العام في روسيا يتجه نحو تحميل أوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية هذه الجريمة التي راح ضحيتها 143 شخصاً وأُصيب المئات، والتي تعد نقلة نوعية في الحرب الأوكرانية ومقدمة للتصعيد الاستراتيجي ودخول الحلف الأطلسي طرفاً مباشراً فيها.