العملية الإرهابية الشنيعة التي تم تنفيذها في موسكو قبل عدة أيام وراح ضحيتها 137 مواطناً مدنياً روسياً أعزل تُلقي بظلال ثقيلة على ضمير البشرية وتخبرها بأن الإرهاب كجرعة سياسية لايزال حياً، وليس بالإمكان محاربته أو إيقافه كما فتئت جهات كثيرة على القول بأنها تتواجد في هذه المنطقة أو تلك، ضمن الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، أو بأن الإرهاب سيتم القضاء عليه وقطع دابره قريباً.

في أعقاب العملية التي تم تنفيذها في قاعة موسيقية في مركز تجاري خرجت إلى العالم جهات دولية تريد اقناع البشرية بأن من قام بتنفيذ العملية هو تنظيم «داعش- ولاية خراسان»، والذي أعلنت جهات تقول عن نفسها بأنها ناطقة باسمه بأن «داعش» هو من قام بالتنفيذ، وهي حقيقة جهات غير معروف من هي أو أين تتمركز. ورغم محاولة إقناع النفس بتصديق هذه الرواية التي أخذت في تكرارها دول كثيرة إلا أن الأمر فيه شيء من عدم القدرة على استيعاب دقة هذه البيانات والتصريحات.

إن هناك قمة شعور بأن الحقيقة تكمن في مكان آخر. في هذا المقام سأحاول الخوض في نمط تحليلي - فكري حول الإرهاب ضمن الظروف الموضوعية الإقليمية والدولية التي تعيشها روسيا بعيداً عن خصوصية ما حدث في قاعة روسيا الموسيقية في موسكو. نحن سننظر فيما وراء موضوع «داعش» لكي نحلل الإرهاب كظاهرة مرتبطة بالتهديدات وبجميع إمكانات وقوع الإرهاب في هذا العالم منفذاً من قبل أي جهة كانت بما في ذلك إرهاب الدولة. لا يوجد لدينا تعريف شامل عالمي الطابع للإرهاب، عوضاً عن ذلك الإرهاب هو فعل بنائي معمم مستمد من مقولات البشر حول الأخلاق والقانون وقواعد الحرب.

الإرهاب مشكلة اجتماعية معقدة جداً، فما نراه في هجوم إرهابي معين حبة رمل في تل ضخم بصحراء قاحلة من صحاري العالم - والذي يجب أن يفهم في محتوى اجتماعي - ثقافي عالمي واسع من الفوضى المشوشة في تقاطع طرق في أماكن ليس بها قوانين يتم الالتزام بها، إنما تتحكم فيها الأيديولوجيا المتطرفة والتدفقات الخطيرة.

الإرهاب في محتوى المحيط الروسي الإقليمي والدولي الحالي هو صيغة غير متناسقة من أعمال الحرب بالوسائل الرخيصة ذات التكلفة المالية والمادية المنخفضة بهدف الهجوم على الكثافة السكانية المدنية وعلى البنى التحتية الوطنية لإحراج الدولة والحكومة والرئيس فلاديمير بوتين بعد فوزه الكاسح في الانتخابات الأخيرة.

يحدث ذلك عندما يتواجد عدو خارجي لديه قدرات اقتصادية وإمكانات عسكرية، أقل قدرة وتفوقاً، وبالتالي لا يمكن له مهاجمة روسيا والنيل منها بتكتيكات تقليدية مسلحة، لكن الإرهاب ليس مسألة هجمات بالأسلحة فقط لكنه لعبة ذهنية تستخدم لزعزعة أسس عقلية المواطنين الأخلاقية وثقتهم وإيمانهم بحكومتهم ولإظهار قوة من يمارس الإرهاب أمام مكونات الشعب المستهدف. على مدى العقود القليلة الماضية أنماط مهمة للإرهاب تم رصدها خاصة بالنسبة لتنظيمي «القاعدة» و«داعش» الإرهابيين منها أن من ينفذون العمليات الإرهابية الهجومية الخطيرة كالذي وقع مؤخراً في موسكو يكونون من الانتحاريين الذين يتوقعون القتل من قبل قوات الأمن أثناء تنفيذهم لعملياتهم.

لكن إرهابيي هجوم موسكو لم يكونوا بتلك الصفة وكانت لديهم خطة للهرب والخروج من الأراضي الروسية وهم أحياءٌ، ما يلقي بظلال من الشك على انتمائهم العضوي لـ«داعش»، ويطرح تساؤلات خطيرة حول كونهم مرتزقة رخيصي الثمن جندوا للقيام بهذه العملية في مقابل المال. وتشير بعض المصادر التي تحدثت عنهم بأنهم تلقوا مبالغ زهيدة هي خمسة آلاف دولار أميركي لكل واحد منهم. لكن حقيقة نحن يجب أن نكون حذرين أمام الجزم بهوية أي إرهابي في هذا العالم عن طريق الاختزال أو الاكتفاء بالشواهد السطحية المجردة. ويعود السبب في ذلك إلى أن الجماعات الإرهابية تتفاوت في ثقافتها وأيديولوجياتها وأولويتها.

وبالتأكيد أن إرهاب الأمس كان مختلفاً عن إرهاب اليوم وربما عن إرهاب الغد. إنه لأمر مضلل جمع التنظيمات التي تستخدم التكتيكات الإرهابية في مجموعة ذات نزعة متجانسة تسمى «داعش» أو «القاعدة» أو غيرها. لذلك، فإن ما وقع في موسكو يمكن أن تكون وراءه أطراف خارجية معادية أو خصوم سياسيون معارضون للرئيس بوتين أو «داعش» كما تم الإعلان عنه.