ما هي العلاقة بين موقع إسرائيل ما بعد حرب غزة في السياسات الداخلية الأميركية، وزيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني واشنطن منتصف نيسان (أبريل) المقبل؟ فتش عن إيران. وماذا عن مصير القوات الأميركية في العراق وسوريا في المحادثات الأميركية - العراقية؟ فتش عن "داعش" وليس فقط عن الميليشيات العراقية الموالية لإيران. ثم أين تقع قوى "الإخوان المسلمين" في ضوء وضع "حماس" في غزة وفي إطار العلاقات الغريبة بينها وبين "حزب الله" في لبنان والتابع في القرار الاستراتيجي إلى "الحرس الثوري" في إيران؟ فتش عن إسماعيل هنية في طهران، وعن اللقاءات السرية الأميركية - الإيرانية في عُمان والممتدة في مواضيعها من آفاق توسّع الحرب بين إسرائيل و"حماس" أو ضبطها في لبنان وسوريا، إلى نشاطات الحوثيين ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر. وفي طيات كل هذه العناوين مصير الانتخابات الرئاسية الأميركية في السباق بين الديموقراطي الرئيس جو بايدن والجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب.

لنبدأ بالعراق. الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي عارضوا زيارة رئيس الوزراء العراقي معتبرين أنها غير مناسبة في توقيتها، وأن قرار الرئيس بايدن يبعث برسالة استرضاءٍ لإيران أكثر من دعم إسرائيل في تحقيق هدف هزيمة "حماس". هذا ما جاء في رسالة السيناتور الجمهوري توم كوتون وسبعة من زملائه في الكونغرس. البيت الأبيض كان قد قال إن المناقشات ستشمل تطور المهمة العسكرية الأميركية في العراق والتزام الولايات المتحدة المشترك الهزيمة الدائمة لـ"داعش".

إدارة بايدن تدرك تماماً مدى النفوذ الإيراني الكبير في العراق واستخدام طهران ميليشيات عراقية لضرب المصالح الأميركية داخل العراق وفي سوريا، إلى جانب التنسيق مع "حزب الله" في إطار ما يسمى "وحدة ساحات المقاومة". تدرك أيضاً أن محمد شياع السوداني يحاول الإبحار الدقيق في مياه العراق العكرة كي تبقى العلاقة مع إيران غير متفجرة، ومع تركيا غير عدائية، ومع الولايات المتحدة بعيدة عن المواجهة بل متجهة نحو شراكة أمنية ثنائية قوية استطراداً لما يسمى بـ"الإطار الاستراتيجي" لتلك العلاقة.

العملية الإرهابية الأخيرة التي قام بها تنظيم "داعش – خراسان" في العراق قبل أسبوعين أدّت بإدارة بايدن إلى إبراز استمرار خطر "داعش" وتهديده في العراق ـ أسرعت السفيرة الأميركية ألينا رومانوسكي إلى القول إن عملية "داعش" في روسيا تؤكد الحاجة إلى استمرار عمل "التحالف العسكري" مع العراق لهزيمة التنظيم بالكامل ـ لأن "داعش" لم ينتهِ بعد، ولأن من الضروري هزيمته في كل مكان.

رسمياً، يقول العراق إن التنظيم لم يعد يشكّل تهديداً في العراق. الفصائل الموالية لإيران لم تعلن موقفاً من تصريحات رومانوسكي في بداية الأمر، بل إن قادة في "الإطار" تبنوا مواقف لافتة ومغايرة لخطاب التصعيد على نسق ما قاله رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي حول حاجة العراق لاستمرار التعاون الاستخباري الأميركي في العراق واستمرار التدريب والإسناد.

ما يريده "الإطار التنسيقي" من هدنة الفصائل مع الأميركيين هو أن يحصل السوداني أثناء زيارته بايدن على رفع عقوبات مفروضة على شخصيات ومصارف عراقية. الهدنة الأخيرة صامدة بعدما أبرم قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني اتفاقاً الشهر الماضي بعد سلسلة ترتيبات أميركية - إيرانية عن طريق محادثات سلطنة عمان أسفرت عن إطلاق أموال إيرانية مجمّدة مقابل تهدئة بعض ساحات المقاومة.

وهذا تماماً ما يدفع بعض الجمهوريين إلى الاحتجاج على العلاقة بين إدارة بايدن وكل من العراق وإيران، لأنهم يجدون فيها سياسة استرضاء لإيران لها عواقبها على صعيد الطموحات الإيرانية النووية، كما على صعيد العلاقة بين إيران وإسرائيل وانعكاسات التقارب الأميركي مع إيران، فيما التباعد واضح بين إدارة بايدن وحكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل.

هذا لا يلغي حقيقة القلق وجديّته من خطر تنظيم "داعش" بعد الهجوم على قاعة للحفلات الموسيقية في موسكو، والذي أسفر عن مقتل 140 شخصاً وأدّى إلى رفع مستوى التحذير في عواصم أوروبية، وإلى التقويم الأميركي لـ"داعش" من بوابة العراق.

الخوف يزداد بسبب التطور التكنولوجي واستخدام "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية للتكنولوجيا ولشن هجمات سيبرانية على وسائل التواصل وكابلات الإنترنت. حتى أن هناك من يقول إن الذكاء الاصطناعي سيُستخَدم لإعادة "إحياء" أسامة بن لادن وإعادته صورةً وصوتاً إلى المشهد العالمي لحشد الدعم لأفكاره، وكأنه حيّ.

هذه التنظيمات، على نسق "داعش - خراسان"، ستتخذ من تجارب الحوثي اليمني ونجاحاته في تعطيل الملاحة في البحر الأحمر ملهماً لها، كما ستستغل مأساة غزة لإعادة طرح نفسها على الساحة العالمية. الحوثيون استفادوا وسيستفيدون مادياً بصورة ضخمة نتيجة تهديداتهم للسفن والناقلات عبر القرصنة وقطع الطرق. ثم إنهم يبرمون الصفقات الصامتة مع الصين وروسيا ويتعهدون بعدم التعرض لسفنهما بل فقط للسفن والناقلات الغربية.

قدرات الحوثي ليست حصراً محلية بالتأكيد، بل وراءها التكنولوجيا والاستخبارات الإيرانية، علماً أن إيران متفوقة في هذا المجال إلى جانب كونها من الدول الخمس الرائدة عالمياً في مجال الأمن السيبراني. واضح أن فريق بايدن إلى المفاوضات السرية مع الفريق الإيراني في سلطنة عمان يبحث بالتأكيد موضوع أمن البحر الأحمر ونشاطات الحوثي فيه، لكنه أيضاً يبحث في ملف العراق، إلى جانب العلاقة المستمرة بين طهران وقادة "حماس"، كما بين طهران وقادة "حزب الله".

الغموض المتعمَّد هو جزء من الاستراتيجية الإيرانية، لا سيّما في زمن رهانها على إدارة قد لا تبقى في البيت الأبيض بعد الانتخابات. إيران تفضّل الرئيس بايدن لأن لها علاقات مع فريقه كما كان لها علاقات جيدة مع الرئيس الأسبق باراك أوباما وفريقه، وجزء منه انتقل إلى إدارة بايدن. لكن قادة طهران لا يضعون البيض كله في سلّة واحدة، وهم يفهمون لغة دونالد ترامب وعنوانها الأساسي فن الصفقة إذا نجحت، وعصا العقوبات إذا فشلت.

في هذا المنعطف، إن قادة طهران غير راغبين في استفزاز الولايات المتحدة إلى عمليات عسكرية ضدهم، ولا بالوقوع في فخ الاستفزاز الإسرائيلي لجرّهم إلى الحرب عبر "حزب الله" في لبنان. يريدون الاحتفاظ بالعراق وبنفوذهم فيه بلا مزايدات علنية بل بتفاهمات ضمنية. قادة إيران يزعمون أولوية القضية الفلسطينية في حساباتهم، لكنهم أوضحوا عدم استعدادهم للعمل بتوقيت "حماس". إنهم ينتظرون ما ستسفر عنه المفاوضات الجارية بوساطات عربية مع "حماس" من دون التدخل الفعلي لدعمها ولا لتعطيلها. وهم يراقبون تطور العلاقة الأميركية - الإسرائيلية بعيداً عن الرهانات الجاهلة، فهم أذكى وأدق من الوقوع في فلك الرهان.

فريق بايدن يريد الانتهاء من حرب غزة لأنها باتت عنصراً سلبياً في الحسابات الانتخابية، أولاً بسبب استياءٍ في صفوف الديموقراطيين من ازدراء نتنياهو بالرئيس الأميركي ومن عزمه على اجتياح رفح مهما كانت الكلفة الإنسانية أو بلغت المعارضة الأميركية. ثانياً، لأن حرب غزة تفتح أبواب تهمة الضعف أمام ما يصفه الأميركيون بإرهاب "حماس" و"حزب الله" والحوثيين وراعيهم الأكبر إيران.

ثم إن انتهاء ولاية جو بايدن بحربين مفتوحتين في غزة وأوكرانيا شكل ذخيرة في أيدي دونالد ترامب، إضافةً إلى أن إسرائيل، واللوبي وراءها، لن تتردد في عملية سحق "حماس" بقيادتها وبنيتها العسكرية التحتية إذا ما فشلت إدارة بايدن بتقديم البدائل لخططها التي تحمي المدنيين أثناء تنفيذ هذه العملية التي تصر عليها المؤسسة العسكرية وتلاقي دعماً شعبياً في إسرائيل.

مع تقدم الحملات الانتخابية في السباق الأميركي على الرئاسة، ستكون إيران أكثر وجوداً فيما هي تود أن تبقى أكثر غموضاً. زيارة رئيس وزراء العراق ستسلط الضوء على إيران وأدوارها وأذرعها وميليشياتها ونشاطاتها النووية.

كذلك إذا توسعت حرب غزة، عندئذٍ فإن إيران ستكون في الواجهة. لهذا تحاول أن تمون على "حزب الله" تخفيف نشاطاته العسكرية التي تستدعي انتقامات إسرائيلية لن تكون مكلفة جداً للبنان فحسب، بل لـ"حزب الله" نفسه وكذلك لإيران.

ظهور "داعش" مجدداً ليس أمراً عابراً، لكن "داعش" ليس وحده من يفرض نفسه على الساحة الدولية ويؤثر في السياسات الأميركية. ذلك أن إيران و"الإخوان المسلمين" بمختلف أطيافهم حاضرون في المشهد بفضل عقيدتهم وأفعالهم.