يمثل التلاحم الوطني صمام أمان المجتمعات، وركيزة أساسية لقوتها واستقرارها، فهو قيمة جوهرية، وحاجة ضرورية، لا غنى للأوطان عنها، فالوطن يصان ويزدهر عندما يكون أبناؤه متماسكين كالجسد الواحد، متوحدين في رؤيتهم، مجتمعين على مصالحهم العليا، مصطفين خلف قيادتهم، فلا يستطيع عدو اختراقهم، ولا مغرض النيل منهم، فيبقى أمنهم مصوناً، ووطنهم محفوظاً، وازدهارهم مستداماً.

وتتأكد هذه القيمة الوطنية قيمة التلاحم وتنكشف أهميتها بجلاء في أوقات الفتن والأزمات والتحديات الداخلية أو الخارجية التي تلم بالدول والمجتمعات.

حيث تكثر في مثل هذه الأوقات الأصوات التي تتدخل والآراء التي تحلل والمحتويات التي تنتشر ممن هب ودب، فتجد الكثيرين يتصدون لتحليل الأحداث والأزمات والخوض فيما يجري من خطوب وفق نظرتهم القاصرة، وبخاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي التي اجتاحت العالم اليوم وأصبحت في متناول أيدي الجميع، سواء عبر مقاطع مرئية أو بث مباشر أو تدوينات أو مقالات أو غيرها.

فترى بعضهم يقدم تحليلات خاطئة للأحداث القائمة، ويقدم آخرون حلولاً وهمية دون إدراك لواقع الأمور، زاعمين أنهم يملكون المفاتيح السحرية لحل هذه المشكلات، ويعاتبون هذه الدولة على التقصير.

وتلك على الخذلان، ويحرضون ضد هذه أو تلك، وهم أبعد ما يكونون عن الإدراك السليم، وعن العقل الحكيم، وعن معايير الإمكان والواقع، وما خفي عنهم من حقائق الأمور أعظم مما يزعمون أنهم يعرفون، وما جهلوه من مساعي الدول وتحركاتها أكثر بكثير مما يدعون أنهم يعرفون.

ومن هؤلاء من هم متحمسون جرفتهم العواطف، والعواطف وإن كان لا يخلو منها إنسان، وخاصة تجاه الخطوب والأزمات، إلا أنها تتحول إلى عواصف إن لم يتحكم بها ويضبطها، ومن هؤلاء كذلك أصحاب أجندات وتنظيمات، يتكلمون بألسنتها، ويتناولون الأحداث وفق رؤيتها.

وبما يحقق مصالحها، ويوظفون مختلف الأدوات للإثارة والتحريض والتهييج، متاجرين بآلام الأبرياء دون ضمير، محرضين على الدول والمجتمعات دون وعي ولا إدراك بمغبة ما يفعلون. وهؤلاء يوهمون الناس بأن علاج هذه القضايا والأزمات بالطرق الفوضوية هو الحل الناجع، بينما هو طريق للخراب والدمار، فخطابهم خطاب سلبي، لا يقدم حلاً، بل يزيد الجرح جروحاً، والألم آلاماً.

إن العاقل يعرف أن لهذه القضايا والأزمات أهلها، وهم قادة الدول والمعنيون بشؤونها، ومن واجب المجتمعات التمسك بتلاحمهم الوطني خلف قيادتها، والسير وفق رؤيتها لحل الأزمات والمشكلات، فإن هؤلاء القادة أحرص على حلها، وإيجاد المخارج لها، في عالم متشابك معقد، محكوم بنظم وقوانين ومسارات عالمية.

ومن الأسباب المعينة على التلاحم الوطني ثقة المجتمعات بحكامها، التي تنبع من الإيمان برؤية قياداتها، وإحسان الظن بهم، وأنهم يحرصون من موقع مسؤولياتهم على خير بلادهم وخير أشقائهم، والالتزام بنهجهم، فإن ذلك يقوي مناعة المجتمعات ضد التحديات والأزمات، ويجعلها متماسكة على قلب رجل واحد.

ومن ذلك أيضاً إرجاع مسائل السياسة الداخلية والخارجية إلى أهلها المختصين بها، فإن الإنسان العادي مهما اطلع على مثل هذه الأمور فإن اطلاعه محدود.

وبالتالي فإن ما يبني عليه من تصورات وحلول قد تكون بعيدة كل البعد عن الواقع والإمكان، بخلاف المختصين بها، فهم مطلعون على تفاصيلها ودهاليزها، والمسارات المتاحة لعلاجها، وإذا كان من الخطورة بمكان قيام غير المختص بالطب والعلاج بتشخيص الأمراض والأدوية استناداً إلى معلومات قاصرة.

فكذلك من يقوم بتشخيص الأزمات ووضع الأدوية لها وهو غير مختص بها، قد يضر أكثر مما ينفع، ويكون خطابه خطاب تفكيك وفوضى لا خطاب تلاحم وتكاتف، وقد قال الله تعالى: {‌وإذا ‌جاءهم ‌أمر ‌من ‌الأمن ‌أو ‌الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.

إن المتربصين بالأوطان يبحثون عن أي ثغرة للطعن فيها وفي قياداتها ومجتمعاتها، وإن أي عدو ليفرح بأي فوضى أو انقسام أو تفكك، والواجب على كل فرد أن يتحلى بدرجة عالية من الوعي، وأن يكون خير سند لدولته وقيادته في رؤيتها ونهجها وعلاجها للأزمات والمشكلات، وأن يجعل التلاحم والتكاتف مقصده المستدام، ليكون درعاً لوطنه، وصمام أمان لاستقراره وازدهاره.