أظهر عنف القرن العشرين الهائل، ويُظهِر عنف القرن الحادي والعشرين المشتعل أمامنا اليوم، كم كان الفكر التطوّري والعلموي الذي ساد في القرن التاسع عشر، مثالياً وحالماً. كان الاعتقاد الراسخ لدى المفكرين المأخوذين بفكرة التطور، وبالعلم الحديث الذي تكوّن في أوروبا، بأنه، خلافاً للديانات المتوالية منذ أقدم الأزمان، المرتكزة على الإيمان، وخلافاً للنظريات الفلسفية المتعددة، الراسخة في القدم هي أيضاً، المستندة إلى العقل النظري، سيكشف العلم الجديد القائم على العقل التطبيقي، وعلى التجربة الحسية ونتائجها العملية واكتشافاتها الموثوقة، جميع الأسرار، ويفتح كل الأبواب الموصدة، ويحل كل المشكلات التي رافقت البشرية منذ البداية، بما فيها مشكلة العنف ومشكلة الحرب والسلم. وكان الاعتقاد بأن الإنسان العلمي هو الإنسان الجديد، المتحلي بالمعرفة، الحقيقة الواحدة، النسبية، القابلة للتعديل في ضوء تطوّر التجربة والمعرفة والاكتشاف، المتحرر من رواسب الإنسان القديم، الديني أو الفلسفي، صاحب العقائد المطلقة، المتعارضة، التي أدمت البشرية بصراعاتها وحروبها المستمرة منذ فجر التاريخ. وأنه مع تطور العلم، ستتسع معرفة الإنسان الجديد وسترتقي إنسانيته في آنٍ معاً، بصورة متلازمة ومتكاملة.

سقطت هذه الرؤية سقوطاً مدوياً مع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، وقد بيّنت تلك الحرب - التي وقع فيها خلال أربع سنوات فقط 19 مليون قتيل - أن الإنسان الجديد المرتقي علمياً وإنسانياً معاً، هو مجرد وهم. وأن التطور العلمي منفصل تماماً عن التطور الإنساني، لا سّيما في مسألة العنف وفي مسألة الحرب والسلم. لا بل أخطر من ذلك، ظهر أن العلم الحديث الذي يولي صاحبه قدرات تكنولوجية ومعرفية غير معهودة من قبل، يدفع القدرة التدميرية البشرية إلى أشكال وآفاق مخيفة، تتخطى كل ما سبقها. كانت خيبة عظيمة، لم تلبث أن تحوّلت بعد عشرين عاماً فقط إلى تلك الفاجعة الفائقة التصوّر التي هي الحرب العالمية الثانية.

عام 1977 أصدر إنغمار برغمان، السينمائي السويدي الكبير، فيلمه «بيضة الأفعى». كان هو فيلمه الوحيد الصادر بلغة غير سويدية، هي الألمانية. كما كان فيلمه الوحيد الذي يعالج مرحلة تاريخية محددة وله بعد سياسي، إذ إن أعمال برغمان تعبّر كلها عن هواجس الحياة الداخلية ومآزقها، وعن المسائل الوجودية الكبرى التي تواجه الإنسان المعاصر. لكن المشترك بين «بيضة الأفعى» وأعمال برغمان الأخرى هو بالطبع لغته السينمائية المستندة، في جانب أساسي منها، إلى عالم اللاوعي، إضافة إلى مسألة الشر المطروحة هنا بقوة.

تدور أحداث «بيضة الأفعى» قبل قرن كامل، في برلين 1923. لنتوقف قليلاً، مرّة أخرى، عند تحوّلات الزمان: برلين اليوم، العاصمة الألمانية، القوية، المزدهرة، البالغة التطور، كانت قبل قرن مدينة الظلمات، حيث يلتئم، كما في فيلم برغمان، البؤس المدقع والعنف المخيف واليأس المطبق. مسلسل لا ينتهي في تلك الشوارع المعتمة من أعمال القتل الغامضة والانتحارات والاختفاءات والسرقات والمجاعات. إنها برلين 1923، التي انعكست عليها ويلات الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، ومعاهدة الاستسلام المزلة، وسط أزمة اقتصادية ومالية لا توصف. علبة الدخان الواحدة تساوي... خمسة مليارات مارك! في تلك الأثناء وصل أدولف هتلر إلى قيادة الحزب النازي الألماني الصغير، وأقدم على محاولته الانقلابية الفاشلة في ميونيخ وأودع السجن، حيث ألّف كتابه «كفاحي» وتابع مساره.

«بيضة الأفعى» هي الظرف المأسوي الذي خرج منه رجل واحد، أطبق على السلطة في ألمانيا بعد عشر سنوات فقط، عام 1933، لتنطلق معه المرحلة الأخطر في تاريخ أوروبا والشرق الأوسط والعالم. الحلم القومي العرقي الألماني، حلم السيطرة على أوروبا، الذي قاد إلى الحرب الكونية الثانية، حيث سقط خلال سبع سنوات 60 مليون قتيل، وألقيت للمرة الأولى في التاريخ القنابل النووية الأميركية على هيروشيما وناغازاكي، وشُرِّعت الطريق أمام قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.

لا يعرف الكثيرون أنه، على الرغم من «وعد بلفور»، لم يكن للحركة الصهيونية الناشئة أن تحقق حلمها لولا صعود النازية في ألمانيا. عشية وصول هتلر إلى الحكم عام 1933، كانت الحركة الصهيونية منظمة صغيرة هامشية، موضع عزلة واستغراب في المشهد اليهودي، المدني والديني، في أوروبا وأميركا. كان اليهود، في غالبيتهم العظمى، اندماجيين، متعلقين بأوطانهم، لا تراودهم قط فكرة الاقتلاع والتجمع في وطن قومي يهودي في مكان ما في العالم. وفقط حين انطلق واتسع الاضطهاد والقتل الجماعي لليهود على يد النازيين، أضحت فكرة الوطن القومي بمثابة الخلاص والملجأ. من «الالتقاء الموضوعي» بين النازية والصهيونية نشأ الكيان الصهيوني في فلسطين.

ولكي تكتمل صورة القرن العشرين - قرن التطور العلمي الكبير والاكتشافات المذهلة - حيث سقط في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، نحو ثمانين مليون قتيل، لا بد أن تضاف إليها عشرات ملايين القتلى على يد ماو تسي تونغ في الصين الشعبية، وستالين في الاتحاد السوفياتي، وبول بوت في كمبوديا، وسواهم، وملايين القتلى في حروب التحرر من الاستعمار الغربي، من الجزائر إلى فيتنام.

تلك كانت «بيضة الأفعى» التي تكوّن في رحمها شر القرن العشرين وخرج من قمقمها عنفه المخيف. وبعد مائة عام على برلين 1923، أي بيض أفعى يختلج اليوم ليخرج منه عنف القرن الحادي والعشرين الذي بانت بشائره في أوروبا والشرق الأوسط؟ أي بيضة أفعى تحتضنها النزعة القومية الروسية المتشددة في توقها إلى تحقيق «روسيا الكبرى»؟ وأي بيضة أفعى تخفيها تحت جناحها النزعة الصهيونية الدينية لتحقيق «إسرائيل الكبرى»، فيما يتخطى غزة والضفة الغربية، إلى أين؟ وأي بيضة أفعى في جعبة «داعش خراسان» وإخوته في طريق العنف الأعمى نحو «دولة الخلافة»؟ وأي بيض أفعى مستتر، سيظهر على الأرجح قريباً هنا وهناك في حنايا العالم، ليكتمل المشهد؟

ما يثير المخاوف حقاً في هذا السياق هو الدعوة إلى استخدام السلاح النووي، التي كأنها تحرّرت، للمرة الأولى، من لوثة هيروشيما وناغازاكي في الذاكرة البشرية. تهديدات وتلميحات من أعلى المراجع الروسية في حرب أوكرانيا. وأصوات إسرائيلية ترتفع هنا وهناك تدعو لاستخدام «النووي» في وجه الفلسطينيين وفي وجه إيران وأذرعها. ظاهرة غير معهودة قط، زاخرة بالمخاطر العظمى. هل يصبح السلاح النووي مكوّناً فعلياً من عنف القرن الحادي والعشرين؟ هذا هو السؤال الأخطر.

مهما يكن من أمر، ثمة ظاهرة هي الأرهب على الإطلاق، قلما يتم التوقف عندها: إن تحتضن الكرّة الأرضية أسلحة نووية يمكن أن تدمرها بضع مرات، هو حقاً اللوثة الكبرى المنسية، ومنبع القلق الداهم المتغلغل في لا وعي البشرية، وهو «بيضة الأفعى» العظمى.