وهكذا، تداخل الثأر مع الخوف من تداعياته، وأتت حسابات اليوم التالي لتحتوي الاندفاع إلى رد الاعتبار بأي ثمن. إيران فهمت عواقب اعتماد انتقام واسع من الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في سوريا رضا زاهدي ونائبه محمد هادي رحيمي وخمسة من الضباط المرافقين لهما. إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رسمت الحدود الحمر بهدوء، فحذرت طهران من مغبة استهداف السفارات الأميركية عبر أذرعها، وأوضحت أن الولايات المتحدة حليف ثابت لإسرائيل وستقف معها في حال اندلاع حرب مباشرة بينها وبين إيران مستخدمة الأسطول الخامس حماية للحليف.

اختلفت المعايير لدى علو نبرة المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية لدرجة تحوّلها من مواجهة بالنيابة إلى صدام مباشر بين الدولتين يكون الأول من نوعه في تاريخ العلاقة بين الفرس واليهود. حتى كتابة هذه السطور، يبدو واضحاً أن إيران لا تريد المغامرة وأنها ستكتفي بعمليات تحفظ لها ماء الوجه من دون أن تتورط هي فيها بأرضها موكلة إلى أذرعها المهمات، مستخدمةً سوريا ولبنان واليمن والعراق أراضيَ مستباحة لثأرها.

حسابات إيران وإسرائيل لجهة علاقتهما التهادنية تاريخياً ما زالت ضمن موازين عقلانية المصالح المشتركة بينهما، والتي تكمن في استخدامهما الوكلاء لتنفيذ مشاريعهما وضمان مصالحهما. نبرة التهديد والاستقواء ترفع السقف لكن لن تصل إلى درجة الاستغناء عن تلك العلاقة المريبة بين إيران وإسرائيل، والتي لها تاريخ في صفقات سريّة مثل فضيحة إيران - كونترا.

القواسم المشتركة في مصالحهما الإقليمية والاستراتيجية شملت تقليدياً الرغبة لدى كلتيهما بتقزيم الدول العربية في المعادلة الإقليمية الاستراتيجية.

حرب الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على العراق خدمت إيران وإسرائيل معاً. فهي قضت على البرنامج النووي العراقي ودجّنت العراق كقوة إقليمية مهمّة في المعادلة الاستراتيجية بين العرب وكل من إيران وإسرائيل.

هذا خدم الاثنتين، لكن قدّم إلى إسرائيل بالذات هدية استفرادها بالقدرات النووية وقدّم إلى إيران نفوذاً قاطعاً على العراق وموارده ومستقبله السياسي.

الخلاف الأساسي بين إيران وإسرائيل ليس القضية الفلسطينية كما يريد أن يسوّق محور المقاومة. الخلاف هو على حيازة الأسلحة النووية. إسرائيل تريد الاستمرار في الاستفراد بهذه القوة، وتسعى إلى أن تعطّل البرنامج النووي الإيراني قبل أن يصل إلى درجة التخصيب التي تضمن حيازة السلاح النووي. إيران، من جهتها، تريد صيانة برنامجها النووي فيما تطوّره سعياً وراء امتلاك القنبلة النووية التي هي في نظرها - رغم نفيها - ضرورة استراتيجية ضحّت برخاء شعبها من أجلها.

الأولوية النووية هي في طليعة اعتبارات طهران عندما تنظر في خيارات الثأر، لأنها لا تريد حرباً تتيح الفرصة لإسرائيل والولايات المتحدة لتدمير المفاعلات النووية لديها.

الأولوية الثانية أميركية، لأن رجال طهران لا يريدون المخاطرة بالعلاقة المستمرة سراً بينهم وبين فريق بايدن. فالاتصالات مستمرة عبر قناة عُمان بهدف إتمام صفقة كبرى تؤدّي إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران وإلى رفع العقوبات الاقتصادية عنها. رجال الحكم في طهران يدركون كلفة قطع تلك الاتصالات وإنهاء تلك العلاقة.

ثالثاً، يعرف حكام إيران أن الولايات المتحدة لن تقف متفرجة على حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، وأنها بالتأكيد ستتدخل لمصلحة إسرائيل. عسكرياً، لن تتمكن إيران مهما كابرت وزايدت من أن تنتصر في حرب هي في النهاية أميركية - إسرائيلية. رفع السقف دفاعاً عن الشرف شيء، والدخول في حرب مع إسرائيل في وجه إنذار وتحذير أميركي لن يكون سوى انتحار لأرباب الثورة الإيرانية.

فما دامت المحادثات الأميركية - الإيرانية مستمرة حتى ولو لم تصل إلى الاختراق المطلوب breakthrough فإن عدم انهيارها breakdown مهم للطرفين. فنحن ما زلنا في لحظة ما يمكن تسميته "بالاستقرار الانتقالي" transitional stability بحسب وصف مراقب مخضرم.

لكن حكام إيران في حاجة إلى ذرائع تبرّر ترددهم في اتخاذ الإجراءات الانتقامية الكبرى التي تردّ الاعتبار لهم أمام الرأي العام الإيراني الموالي للنظام وأمام القاعدة الشعبية لمحور المقاومة. إنهم يحاولون أن يوازنوا بين الحسم والمغامرة. شدّ العضلات من دون استخدامها خيار مفيد، أقلّه في هذه المرحلة.

التبريرات الإيرانية للتأني تدخل في الحسابات التالية: أولاً، أن الحكمة تقتضي عدم قيام إيران بأي أمر من شأنه أن يؤدّي إلى تخفيف الضغط الأميركي المتزايد على إسرائيل، والناتج من معاملتها اللاإنسانية وغير القانونية للمدنيين في غزة.

ثانياً، عدم اتخاذ إيران أي إجراء يؤدّي إلى تغيير في مزاج الأميركيين، فيتحوّل الغضب من إسرائيل إلى تعاطف معها وإلى عداء لإيران.

ثالثاً، أن المفاوضات بين إسرائيل و"حماس" لم تتوقف تماماً وهناك فرصة لنجاحها، وبالتالي لإنقاذ "حماس"، ما هو أمر مهم لرجال طهران ومحور المقاومة.

فماذا قد تفعل إيران وهي تدرس خيارات الانتقام؟ شخصياً، أستبعد أن تقرر المواجهة المباشرة مع إسرائيل للأسباب البديهية، وعلى رأسها الحفاظ على العلاقة التهادنية في معادلة "أ-أ" القوية لكل من إيران وإسرائيل، والتي ليس من مصلحتهما التفريط بها. ليتهما تتواجهان مباشرة بدلاً من استخدام الجغرافيا العربية والشعوب العربية أدوات لمعركتهما الثنائية المزوّرة. فلسطين تدفع الثمن، و"حماس" تخدم كلاً من إيران وإسرائيل للأسف، عمداً كان ذلك أو سهواً.

إيران قد تتفاهم مع إسرائيل، خفية، بأن توجّه ضربات خفيقة ضد مواقع لها، سفينة حربية مثلاً أو ضربة عابرة ضد ميناء حيفا. الأرجح أن تستخدم طهران سوريا لرسالة أكبر. لكن لا الرئيس السوري بشار الأسد متحمّس لأن يتلقى العقاب وأن يكون ساحة مباشرة للمواجهة الإيرانية - الإسرائيلية. ولا روسيا متحمسة.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يركّز كلياً على أولوياته المتمثلة في حرب أوكرانيا كما في موعد تنصيبه رسمياً رئيساً في 7 أيار (مايو) المقبل. سوريا ليست في طليعة أولوياته، لكنه لا يريد أن تتحوّل إلى ساحة تشويش عليه.

مسؤول روسي سابق اشترط عدم ذكر اسمه قال لي: "لا نريد أي تطوّر راديكالي في سوريا"، لأن موسكو غير قادرة اليوم على تبنّي إجراءات جديّة قبل إجراء محادثات جديّة بين بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان. فأيدي روسيا مقيّدة، ووضع أردوغان بعد الانتخابات الأخيرة ليس واضحاً.

ثم إن الرئيس الروسي يريد أن يكلل بالنجاح زيارته لإيران لتوقيع أهم صفقة استراتيجية بينهما، ولا يريد حرباً إيرانية - إسرائيلية تعطلها.

أما الصين فإنها بعثت إلى إيران بمؤشرات خلاصتها أن لا مبرر لاندلاع حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، وأن الصين لا تريد توسيع النزاع. كلتاهما، الصين وروسيا، لا تريدان حرباً عالمية، وكل منهما لها أولوياتها الاقتصادية والاستراتيجية ولا تريد أن يجرّها حليفها الإيراني إلى حيث لا تريد وإلى حيث لا نفوذ لها في تطور الأمور ونهايتها.

إدارة بايدن تبذل قصارى جهدها لإتقان فن التوازن والإبحار بحذر شديد في هذه المياه العكرة. فهي كانت شديدة الحرص على إبلاغ رجال طهران بأنها لم تكن أبداً على علم مسبق بالهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، لتؤكد لطهران أنها ماضية في التزاماتها معها بموجب مفاوضاتهما غير المباشرة والسرية. وهي كانت شديدة الاضطرار لإعلان التزامها الثابت حماية حليفها الإسرائيلي إذا قامت إيران بحرب مباشرة معه مع الاستمرار بتحذير إسرائيل من عواقب الاستهتار بها بالذات في ما يخص عملية رفح.

الرئيس جو بايدن وفريقه يسيران على حبل مشدود مع ازدياد ضغوط الناقدين لهما من الجانبين في الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري:

اليسار الذي يعارض استمرار الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل بتلازم مع التعبير عن الامتعاض من التجاوزات الإسرائيلية.

واليمين الذي بدأ يصوّر بايدن وفريقه بأنه يمدّ إلى "حماس" عصا النجاة والخلاص فيما يلبي لإيران مطالبها ويتهاون جداً مع سياستها الأساسية القائمة على استخدام "حزب الله" في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن والحرس الثوري نفسه في سوريا لخدمة العقيدة الإيرانية والتوسّع الإيراني ولضرب المصالح الأميركية عندما تشاء طهران.

رجال بايدن يؤمنون بالتفاهمات حتى مع الذين صنفتهم الولايات المتحدة "إرهابيين"، وهم يكرهون المواجهة ومستعدون للإرضاء والاسترضاء. رجال إسرائيل يتأبطون الاستفزاز والاستهتار ذخيرة لهم في علاقاتهم مع الإدارة الأميركية، وهم على ثقة بأن أميركا لن تتخلّى عنهم مهما فعلوا، لا سيّما في زمن الحرب.

رجال طهران يتحايلون على عامل الوقت لأنهم مقتنعون بأن الزمن لمصلحتهم ما دام لا أحد يجرؤ في الغرب على أن يسائلهم عن عقيدة نصب الميليشيات في دول مستقلة تضرب بالسيادة عرض الحائط وتستخدم أراضيَ هذه الدول وشعوبها نقطة انطلاق لحروبهم بذرائع زائفة.

ثم يتحدّثون عن سيادة مقر قنصلية في دولة أخرى ويتوجهون إلى مجلس الأمن للاحتجاج لأنها أرض سيادية، رغم وجود مركز عمليات تنسيق داخل المبنى يديره فيلق القدس لأذرعه الأساسية مثل "حزب الله" وتلك الثانوية مثل "حماس" لشن عمليات تعفي رجال الحكم في إيران من المواجهة المباشرة مع رجال الحكم في إسرائيل على أراضٍ إيرانية أو إسرائيلية!!

هذا هو الخلل وبيت القصيد.