هنالك فئة من الناس، وهي ليست قليلة، ويمكن اعتبارها من صفوة المجتمع الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي أو الفني أو العلمي، وتتحكّم أحياناً بالتوجهات المجتمعية والثقافية والأدبية والإبداعية، هذه الفئة، رغم علمها وعلومها، وثقافتها، وتنظيراتها ونظرياتها، تُعرض عن الجديد وتخشى منه، ولا تقيم له وزناً، وتتمسك بالتقليدي والكلاسيكي رغم الحركات الجديدة والحديثة. وهذه الفئة مؤثرة إلى حد ما، لأنها تتحكم بفعاليات كالمهرجانات والجوائز والتكريمات وغيرها. ورفضها يأتي لأسباب عديدة منها: رفضها للجديد رفضاً مطلقاً من دون نقاش، وثانياً، اعتبار كل من يتعاطى مع الحديث، من وسائل تكنولوجية وأشكال تعبيرية، وأفكار ثقافية أو علمية وفنية، لا يمكن البناء عليه، ولا الاعتداد به ولا تصديقه، وبالتالي، لا يُؤخذ على محمل الجد.

وحتى لا يكون الحديث عائماً وشاملاً، سنخصّصه ونحدّده، وسنضرب مثلاً بوسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها ومنصاتها كافّة، التي، وعلى الرغم من انتشارها الكبير، ودورها الأكبر على كافة الصعد، لا تزال هذه الفئة تنظر إليها نظرة دونية تشكيكية لا مبالية، وتقلّل من أهميتها ومن شأن مستخدميها. وتتهم هذه الفئة تلك الوسائل بأنها مليئة بالفوضى والغث والتفاهة والسذاجة والسطحية، وتسودها الشللية والمحاباة والمجاملة والتجميل والتلميع، ولا تخضع لأي رقابة معيارية أو علمية أو فنية، وبالتالي تخسر مصداقيتها.

وهذه الفئة تعيش في زمن غابر قديم يضع الحواجز أمام كل شيء، وتريد أن يمرّ المحتوى، مهما كان شكله ونوعه، من خلالها، ويمكن تسمية هذه الفئة بالورقية، أي الروتينية، التقليدية. فكل شيء غير ورقي يعني دخوله في عالم الافتراضي والفوضى، وبما أن وسائل التواصل الاجتماعي، غير ورقية أولاً، ولا يمر المستخدم على رقيب أو لجنة أو جماعة، فإنه غير معترف به ومشكوك بجودته. وهؤلاء تناسوا أن العالم الإداري اجتهد كثيراً ليصل إلى بيئة غير ورقية، بهدف الحفاظ على البيئة، وتسهيل حركة المعاملات والمعلومات.

وهذه الفئة، حتى نكون منطقيين، تستخدم التكنولوجيا أو التقنية الحديثة، وتؤمن بالشبكة العالمية للمعلومات، الإنترنت، وتعتمدها كمرجع موثوق، وذلك بعد تصنيف دقيق للموقع الإلكتروني، ولهذا، هناك مواقع موثوقة معتمدة ومواقع غير معتمدة، وهذه الثقة مستمدة من كون هذه المواقع يديرها أناس معروفون بأسمائهم واعتباراتهم. أما المواقع أو المنصات الأخرى، أي وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وإنستغرام، وتويتر، ويوتيوب، فلم تحظ بالاعتماد والثقة والمصداقية، لأن المستخدم يتعامل مباشرة مع العالم، من خلال موقعه، أو حسابه الشخصي، أو صفحته أو مدونته، وهذه المباشرة هي التي تُرعب هذه الفئة، إذ كيف يكون الشخص هو المنتج والمقيّم لإنتاجه والناشر له، والمتعاطي مع الجمهور بحرية تامة، من دون حسيب أو رقيب.

وتنسى هذه الفئة أن كبار الشخصيات المنتمية إلى جميع حقول المعرفة، وأن تنظيمات ومنظمات معروفة وحركات فكرية وإنسانية واجتماعية وثقافية معروفة أيضاً، وفلاسفة وكتاباً وشعراء ونقاداً وفنانين وعلماء وسياسيين، يستخدمون هذه الوسائل بشكل مباشر، ويصلون إلى الجمهور من دون عراقيل. وستناقش هذه الفئة أن تلك جهات موجودة على الأرض، وهي مجموعات معروفة، وهنا تصبح المناهضة للفردانية، أي استخدام الفرد، بحرية ومن دون وسيط، لتلك الوسيلة الاجتماعية التكنولوجية.

هذه نتيجة مربكة كثيراً، وتدل على سحب الثقة من الأفراد، وهو موقف غير علمي وغير حضاري، رغم أن هذا الفرد معروف، ويكتب اسمه واسم عائلته، وينشر صورته، أي أنه غير مزيّف وغير مصطنع أو مستعار، إنه حقيقي بشحمه ولحمه، ورغم ذلك، لا يٌقابل بالتقدير، ويُطلق على إنتاجه مسميات مثل، فكر فيسبوكي، شعر تويتري، فن يوتيوبي، إبداع إنستغرامي، ناشط تيكتوكي. وبما أن هذه التصنيفات غير موجودة في الثقافة المكتوبة أو المطبوعة، ولم ترد في الكتب الفكرية والنقدية، فإن الاهتمام بها يكون ثانوياً، وبالتالي، مهما أبدع في مجاله، لن يُدعى إلى مهرجانات أو ندوات تديرها وتشرف عليها جهات رسمية. وحين حاول هؤلاء (المهمّشون) استخدام الفضاء التكنولوجي، وتنظيم مهرجانات شعرية، وأمسيات فكرية، ومعارض فنية، وندوات سياسية، وغيرها، لم يحظوا بمتابعة أو اهتمام من الوسائل الإعلامية التقليدية، من صحف وتلفزيونات وإذاعات، خلافاً للفعاليات التي تنظمها جهات تعمل على الأرض، أو لديها صفة رسمية.

نرى أن هناك ازدواجية في المعايير، وأحياناً تصل إلى الانفصام المؤسسي، لأن كل المؤسسات الإعلامية الرسمية لديها مواقع في الفضاء الافتراضي، وتتوجه لهذا الإنسان الافتراضي، وتضعه في الحسبان إذا ما أرادت إحصاء نسبة المتابعة والمشاهدة.

ما زالت هذه الفئة تتعامل مع المشهد كمكوّن واحد، وترفضه بالكامل، ولا تحاول اللجوء إلى الانتقائية، واعتماد الأشخاص المعروفين الطبيعيين الحقيقيين، وهذا السلوك يؤدي إلى إيقاع الظلم والتهميش بفئة عريضة من المبدعين والمبتكرين والمثقفين، ويمنع عنهم الفرص الحقيقية.

جدير بالقول إن هناك مؤسسات قليلة تعترف بالمحتوى الفني أو الثقافي أو الإبداعي، المنشور في وسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء، يستحقون الإشادة والتحية، لأنهم يتعاملون بموضوعية مع مخرجات العصر التكنولوجي، الذي لا مفرّ من التعامل معه والاعتراف به.