بعد 12 يوماً من استهداف اسرائيل للقنصلية الايرانية في دمشق، أتى الرد الايراني في مسلسل تشويق عبر إرسال مئات الصواريخ والمسيرات التي استغرقت ساعات للوصول الى أهدافها المفترضة.

كانت هناك حاجة إيرانية لاتباع اسلوب جديد في الرد بعدما ازدادت وتيرة النزعة الهجومية الاسرائيلية على إيران ووكلائها خلال الأشهر الاخيرة نتيجة الحرب في غزة وضغط اسرائيل على ما تعتبره تراخياً اميركياً حيال طهران. بعد الغارة الاخيرة على القنصلية، وجدت طهران نفسها مرّة اخرى أمام معضلة الردّ المباشر مع ما يترتب على هذا الامر من مواجهة أو القيام بردّ محدود لحفظ ماء الوجه، أي الاستمرار بإعطاء الانطباع نفسه أنّ النظام الإيراني غير قادر على ردع إسرائيل بشكل مباشر، ويفضّل الاستمرار والتركيز على الحرب الحذرة التي يتقنها أكثر، وهي الحرب بالوكالة.

الخيار الذي اتخذته طهران في النهاية هو استعراض قوة في شكل الهجوم، لكن ليس في طبيعة الهدف. هذا ما فعلته بعد مقتل القيادي في الحرس الثوري رضي موسوي في دمشق في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي. كان الرد الإيراني عبر صواريخ بالستية انطلقت من جنوب غرب الأهواز إلى اقليم كردستان حيث استهدفت في أربيل رجل الأعمال الكردي بيشرو دزيي المقرّب من إسرائيل. هذا الخيار تفادى استهداف الأميركيين والإسرائيليين بشكل مباشر، لكن أظهر قدرة الإيرانيين على إطلاق صواريخ بالستية عابرة نحو أهداف إقليمية.

هذه المرة، إختارت طهران محاولة استهداف اسرائيل مع سابق انذار للاميركيين عبر اطلاق صواريخ ومسيرات اوقفتها واشنطن تباعا عبر الاردن وعلى الحدود السورية-العراقية بمساندة بريطانية، ولم يصل الا القليل منها على قاعدة رامون الجوية في النقب التي تقول إيران ان منها خرجت الطائرات التي غارت على قنصليتها في دمشق. هناك بعض الانطباعات في تقييم هذا الرد الايراني وكيفية التعامل معه.

اولا، تمكنت إيران من استهداف اسرائيل لأول مرة لكن بحذر وقدرات محدودة. بعد إيران الجغرافي وعدم امتلاكها تفوق جوي في الاقليم جعلها ترسل صواريخ ومسيرات لم تصل اغلبيتها الى أهدافها المفترضة. خيارات الرد الاخرى كانت محدودة.

الردّ من سوريا والعراق غير ممكن لأنّ الأهداف المتاحة أميركية وليست إسرائيلية، وقد توقف وكلاء إيران عن استهداف القوات الأميركية في سوريا والعراق منذ شهر شباط (فبراير) الماضي نتيجة الضغوط الأميركية والغارات التي شنّتها واشنطن.

لدى الحوثيين قدرات في البحر الأحمر وخليج عدن، وصاروخ "كروز" الذي أطلقوه على شمال إيلات الشهر الماضي اخترق الأجواء الإسرائيلية لكن من دون اي قدرة جدّية على استهداف إسرائيل. الجبهة اللبنانية أستُهلكت اكثر مما تحتمل، وتدرك طهران أنّ تحميلها أكثر ستكون له تبعات على "حزب الله".

ثانيا، أظهر الرد الايراني هشاشة الدفاع الإسرائيلي بدون دعم اميركي في ظل انظمة دفاع جوي بتقنيات عالية غير قادرة على التعامل مع عدد كبير من الصواريخ والمسيرات في حرب شاملة. واشنطن هي التي هندست تقويض الهجوم الايراني قبل حتى وصوله الى اسرائيل بالتنسيق مع دول الجوار، قبل ان تضغط واشنطن على اسرائيل كي لا ترد على هجوم اعتبرت انه لم يحقق أهدافه. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كان خارج القدرة على أدارة هذا النزاع سياسيا وعسكريا، لكنه تمكن من ضمان تعاطف اميركي ودولي فقده خلال حرب غزة، لا سيما مؤشرات في الكونغرس لتسريع اقرار المساعدات العسكرية الاميركية لإسرائيل.

ثالثا، أثبتت أميركا انه حين يكون لديها الارادة قادرة على ضبط النزاعات الإقليمية. أميركا لا تحتاج لان تتدخّل في الحرب بشكل مباشر لتوقف تداعياته. كان الرئيس الاميركي جو بايدن قادرا على لعب دور قيادي لوقف تداعيات حرب غزة كما فعل في ضبط ايقاع المواجهة الإسرائيلية الايرانية، لكانت المنطقة تفادت الازمات التي تتراكم.

معضلة إيران ان التفوّق الاستراتيجي والاستخباراتي الإسرائيلي أصبح خارج قدرتها على ردعه من دون افتعال حرب إقليمية مباشرة. منذ عقد من الزمن والغارات الجوية الإسرائيلية تضرب مواقع إيرانية ووكلائها، وأذرع اسرائيل الاستخباراتية تتحرّك بسهولة في دول المشرق العربي وحتى في الداخل الإيراني لاستهداف علماء نوويين.

بعد إعتماد الغموض الاستراتيجي في طبيعة وتوقيت ومكان الرد، وافقت طهران على فتح القنوات الخلفية مع واشنطن في الفترة الفاصلة هذه، ما يعني أخذ الموقف الأميركي في حساباتها قبل تحديد طبيعة الرد. ليس هناك رغبة في تصعيد المواجهة بين واشنطن وطهران، ويبدو انه تم الاتفاق غير المباشر بان هذا الرد الايراني مقبولاً ويسمح لاميركا إقناع إسرائيل بقبوله وطوي الصفحة. نتنياهو كان خارج هذه المعادلة وقد يكون مضطرا لقبولها على مضض وإلا سيتحدى البيت الابيض في ازمة ثانية بعد حرب غزة. الموقف الأميركي تجاه حرب إسرائيل في غزة تغيّر، وبالتالي لا يمكن لإيران الاستمرار في سياسة معاقبة أميركا او التصعيد ضدّها لتفرض على إسرائيل وقف إطلاق النار.

طهران رفعت سقف تحذير إسرائيل إلى مستوى لا يمكن التراجع عنه، من دون ان تتأثر صدقيتها في الردع، لكن الخلاصة الايرانية تكون دائماً نفسها. المخاطرة بحرب مفتوحة تُضعف مكاسب إيران الإقليمية، والهجوم على إسرائيل لا يستحق المخاطرة بما تبقّى من العلاقة مع الأميركيين في ظل انسداد أفق المباحثات النووية. إيران تستمر في تنفيس غضبها في المشرق العربي ولم ترسم بشكل حاسم خطوط تماس ردع اسرائيل التي قد تستمر في التمادي باستهداف إيران ووكلائها.