الكونغرس الأميركي ذاته الذي يعاني انقساماً دورياً حول التمويل الفدرالي، وبالكاد يتجنب الإغلاق الجزئي للحكومة كل ستة أشهر، أقر بشبه إجماع قبل أيام مساعدات خارجية تعكس تفكير المؤسسة الحاكمة في تحويل الأولويات والموارد من مكافحة المجموعات المتطرفة وإدارة النزاعات المحلية إلى ردع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا وإيران. هذا التحول انعكس في حزمة المساعدات التي أقرها الكونغرس وبلغت 95 مليار دولار، أي حوالي 8 في المئة من التمويل النصف سنوي للحكومة الفدرالية الذي بلغ 1.2 تريليون دولار الشهر الماضي. يعكس توزيع هذه المساعدات ترتيب الأولويات، وهي 61 مليار دولار لردع روسيا عبر أوكرانيا، 26 مليار لردع إيران عبر إسرائيل، و8 مليارات لردع الصين عبر تايوان.

هذا المبلغ المحدود لردع الصين عسكرياً يعكس التهدئة بين واشنطن وبكين مع التركيز الأميركي على التنافس الاقتصادي، بحيث شملت حزمة المساعدات قانوناً يحظر تطبيق "تيك توك" خلال تسعة أشهر ما لم يقطع علاقته مع الشركة الصينية المالكة، باعتبار أن هناك مخاوف حول الأمن القومي الأميركي عبر مشاركة معلومات المستخدمين مع الحكومة الصينية.

تحاول واشنطن وقف هذا المد التكنولوجي الصيني، بحيث وصل عدد مستخدمي "تيك توك" العام الماضي إلى أكثر من مليار مع عائدات تصل إلى 120 ملياراً، منها 16 ملياراً من الولايات المتحدة. وتم وضع آليات هذا الإجراء عبر إقرار "قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الأجنبية التي يسيطر عليها الخصوم" الذي طلب من وكالات الاستخبارات الفدرالية تحديد تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي التي تخضع لسيطرة خصوم واشنطن.

تزامنت هذه المساعدات والإجراءات مع مؤشرات مواكبة تعيد تأكيد هذه الاتجاهات في السياسة الأميركية مع قرار واشنطن سحب مستشاريها العسكريين من تشاد والنيجر، في ظل انحسار جديد للنفوذ الأميركي في أفريقيا.

المؤسسة الحاكمة تسعى عند الضرورة لتقليص انتشار القوات الأميركية ونفقاتها العسكرية، لا سيما في المناطق التي لا تعتبر أولوية استراتيجية. لكن هذه القوى الصاعدة تستمر في القضم التدريجي لمصالح أميركا حول العالم.

تضطر واشنطن منذ سنوات للتعامل مع مطالب أفريقية بإعادة التفاوض على قواعد التنسيق الأمني وشروطه معها، بحيث تأخذ حكومات مثل تشاد والنيجر ومالي وبوركينا فاسو مسافة من واشنطن لتستكشف علاقات أمنية مع موسكو.

طلب إنهاء انتشار حوالي 75 مستشاراً عسكرياً أميركياً في قاعدة تشادية تعمل كمركز تنسيق العمليات الأميركية لم يمر عبر القنوات الدبلوماسية، بل بمجرد رسالة من رئيس الأركان الجوية التشادية مطبوعة باللغة الفرنسية إلى الملحق العسكري الأميركي. أضف إلى ذلك، أن ردع روسيا في أوكرانيا يزداد صعوية مع مرور الوقت، والمساعدات العسكرية الأميركية بالكاد تكفي لبقاء النظام في كييف فيما لا يزال النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط مترسخاً رغم الضغوط المتتالية العسكرية والاقتصادية.

الكونغرس لم يقر المساعدات نفسها لإسرائيل قبل أسابيع نتيجة، ليس فقط الانقسام بين الديموقراطيين والجمهوريين، بل بسبب عدم وجود توافق أميركي-إسرائيلي على حرب في غزة لا تعتبرها واشنطن أولوية بل تراها صرف نظر عن التنافس مع إيران وتقويضاً للقيادة الأميركية حول العالم. لكن بعد الصواريخ الإيرانية على إسرائيل ليلة 13-14 نيسان (أبريل) الماضي، تغير المزاج في الكونغرس وأصبح ردع إيران عبر إسرائيل أولوية تتجاوز خلافات حرب غزة. رسالة الإدارة الأميركية في هذا السياق أنها تفرّق بين دعمها لإسرائيل وضغطها المستمر على رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما بين حرب غزة والمواجهات غير التقليدية مع إيران. منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، يضغط البيت الأبيض على نتنياهو للانتقال من القصف العشوائي للمدنيين إلى المرحلة الثانية أي التفاوض لإعلان الهدنة وإطلاق سراح الأسرى مقابل غطاء أميركي لاستهداف إسرائيل لإيران وأذرعها الإقليمية. وبالتالي حتى لو لم تعلم واشنطن بتفاصيل الغارة الإسرائيلية الأخيرة على القنصلية الإيرانية في دمشق، فهي أعطت موافقة مسبقة للانتقال إلى هذه المرحلة الثانية وعلى هذا الأساس غطتها عبر حماية إسرائيل من الصواريخ والدرونز التي انطلقت من إيران.

باختصار، ليست هناك معايير وأخلاقيات، المصلحة الأميركية فوق كل اعتبار. تدعم واشنطن أوكرانيا وتايوان ضد محاولة الهيمنة عليهما فيما تعطي إسرائيل في المقابل مخرجاً بالتركيز على دورها كرادع لإيران بدل دورها كمعتد على الفلسطينيين. لكن هذه المساعدات ليست مجانية، إسرائيل تدين للأميركيين بدورهم في ردع الصواريخ الإيرانية، والبيت الأبيض أدار هذه الأزمة عبر القنوات الخلفية مع طهران بتجاهل شبه كامل لنتنياهو الذي أصبحت أوراقه محدودة.