كُنا نتمنى أن يكون حديثنا عن أقليم كردستان، هو الحديث ثانيةً عن بعض المنجزات التي كانت تتحقق في الماضي بين حين وآخر، و عن المشاريع العمرانية التي كانت تزداد معها الآمال لدى الإنسان الكردي، لاسيما مع مشاهد بناء القرى المُدَمرة والقصبات المُخربة أو تعمير أي شبر من أرض كردستان، وأن نتباهى أمام الجميع بتناميالرخاء والطمأنينة وزيادة ثقة المواطن بذاته وبتجربة كردستان وحتى بمستقبل هذا البلد. 

 كُنا نحب أن نقول للعالم مجدداً ها هو كردستان، حيث الإزدهار والتقدم المستدام والحرية، ها هو البلد الذي يقف على قدميه ويقف وأياه الحاكم والمحكوم في صف واحد كما كان الحال مع بداية تسعينات القرن الماضي.

كُنا نود الحديث بحق عن كل هذا وذاك، غير أننا اليوم، على عكس ذلكتماماً، نحكي عن شيء مختلف، والسبب هو أننا صرنا اليوم نعيش - من حيث ندري أو لاندري- في زمن مُحرج وأليم، زمن تقهقرت فيه الآمال والتطلعات والمعنويات، بل لم تعد فيه الأشياء كُلِها فيمحلها!، وكأننا كنُا في حلم كبير ! سرعان ما أستفقنا منه و وجدنا أنفسنا أمام عالم مُغاير، عالم تبخر فيه ما كُنا بأمس الحاجة اليه،كالمباديء، والأخلاص، والوفاء، والوطنية، وأحترام دماء شهدائنا الأبرار ونهجهم والإلمام بالنموذج الفذ الذي لاتزال تقدمه بيشمركتنا البواسل في جبهات القتال، ليحل اليوم محل كل ذلك- ويا للأسف- كل ما هو فائم على الشر والخراب والتفكك، كالإنتهازية، واللامبالات، وروح التحزب والفئوية، وسيادة قانون الغابة، وتفشي الفساد،وتراجع أبسط الخدمات كالكهرباء والمياه والوقود، وإنعدام الحد الأدنى من العدالة الإجتماعية وتزايد مظاهر البطالة والفقر في المجتمع، لحد الوصول الى ما هو أسوأ وأخطر، وهو شعور المواطن بفقدان الأمل بحاضره ومستقبله واللجوء ثانيةً الى الهجرة عن أرض الوطن والتوجه الى عالم المنفى والمصير المجهول، وكل ذلك ليس بسبب شيء سوى مساويء ومظالم النخب السياسية، التي لاتدري أين نحن، والى أين ذاهبون وما سيواجهنا مستقبلاً في ظل كل هذه التحديات والأزمات الخانقة؟!، كل ما تعرفه هو أنها لاتريد حتى الآن الإقرار بأنها زمرة فاشلة وفاسدة، وعديمة الجدوى، بل هي مصدر كل الأزمات والويلات التي تعيشها اليوم أقليم كردستان.. 

نعم، نقول وبكل ألم وأسف، أن كردستان اليوم يعيش في حالة مزرية جداً، فهو من جهة لايزال مُهدد من قبل أخطر تنظيم إرهابي لايمكن التعويل على أستئصاله حتى وإن حُسم معه الأمر عسكرياً. ومن جهة أخرى، يعاني من أزمة مالية وإقتصادية صعبة لم يشهدها من قبل حتى في مرحلة سحب النظام السابق (1968-2003م) كافة إداراته في كردستان(1991م)، علاوةً على إنهماكه بسبب الفتن والصراعات المزمنة بين الأحزاب الكردية وإنقسام بعض منها الى كتل مصالحية مُتصارعة، وكذلك الخلافات مع بغداد والتعامل مع الإملاءآت التركية والإيرانية !.

 ولا مراء هنا من أن هذه الظروف التي يمر بها أقليم كردستان، ستزداد سوءأ يوماً بعد يوم إذا ما أستمرت النخب السياسية والأحزاب الكردية بهذه العقلية المتعندة والمتحجرة في سياسة التعاطي مع الأزمات والمسؤوليات، خصوصاً إذا ما عَلِمنا أن هذه العقلية هيأساساً نتاج فراغ الشعور بالمسؤولية إزاء شؤون المجتمع وهمومه ووليدة القطيعة مع كل ما يتصل بمصالح البلد، والتمحور المخزي - بدلاً منه- حول المصالح الحزبية والفئوية والشخصية، الأمر الذي آلفي النهاية الى أن تفقد هذه النخبة كل رأسمالها الرمزي وثقلهاالثوري عند المواطن، وتغدو الممارسات والمواقف، أو الوعود والقرارات، التي يصدر عنها، خالياً من المعنى ولاتغير شيئاً وبلا جدوى بل لا تجلب للبلاد والعباد سوى المزيد من الفتن والصراعات العقيمة، أو المزايدات السياسية والحزبية، أو المهاترات الإعلامية، التي يتم أستثمار كلها في النهاية ! للتستر الواضح على التهربالفاضح من المشاكل الحقيقة والأزمات التي يعاني منها المواطنيومياً. 

 المشكلة الأساسية مع هذه النخبة الحاكمة، تتمثل في أنها لاتعي حتى أبسط الأمور، وهي مفارقاتها Paradox في الخطاب والممارسة، فهي لا تنفك ترفع شعارات "وطنية" كبيرة وتطلق مشاريع "قومية" ضخمة بينما تجدها على أرض الواقع مُجردة تماماً من أبسط شروط تحقق هذه الغايات والشعارات، بل متورطة حتى في مواقف حزبية ومصالح فئوية وشخصية ضيقة لايمكن للمرء بتاتاً أن يتوقع معها حصول أي معجزة بإتجاه مصادقة الحد الأدنى من تلك الشعارات والمشروعات.. والأسوأ من ذلك هو أنها باتت اليوم لا تهتم حتى بالمظاهرات الجماهيرية، أو إحتجاجات منظمات المجتمع المدني، أو تقارير المنظمات الدولية، أو إنتقادات المثقفين، أو أي شيء آخر،أي أنها أصبحت كالشيطان الأخرس، لاتصغي لأحد و لاتأبى النتائج والعواقب..! و هذا ما نخشاه تحديداً، أي الوصول الى ما لا ينذر لنا بالخير أبدأ، وربما مفاجئتنا بأحداث ما لاتحمد عقباه..! 

* كاتب و إعلامي من كردستان العراق