يبدو أن خسائر الجيش التركي في معركة الباب السورية ضدّ الحلفاء السابقين من الدواعش، قد أثّرت كثيراً على عقل الرئيس التركي، الذي ظن بأن العملية ليست أكثر من نزهة، قبل أن يكتشف أنها مُغامرة مجهولة النتائج، وربما تكون معركته المصيرية الأخيرة، وهو يخوض حرباً ثانيةً ضد مواطنيه الكرد، ما دعاه لمُطالبة التحالف الدولي بالتدخل في المعركة، بالتزامن مع مُكابرة "عصملية" تُشدّد على قدرة وقوة وخبرة تركيا، التي تُمكّنها من إتمام العملية دون تلقّي أي مساعدة، غير أن تسريبات اخترقت حواجز التعتيم التي تفرضها الحكومة، أشارت إلى أن بعض الأصوات من حزب العدالة والتنمية، تدعو همساً إلى ضرورة حسم المعركة بسرعة، ولو بالتفاوض مع الجيش السوري للتنسيق معه في هذه المعركة، وهذا مطلب تدعمه المعارضة التركية بكل أطيافها، رغم صعوبته إن لم نقل استحالته، لاعتبارات سياسية لا تملك حكومة أردوغان ترف تجاوزها، ما لم يتكبّد الجيش التركي خسائر لا قبل له بتحمّلها.

عند هذه النقطة برز التخبط في التصريحات المتتالية والمتضاربة الصادرة من أنقره، خصوصاً اتهام أردوغان لواشنطن بدعم الجماعات الإرهابية، ومن ضمنها داعش والكرد، وأيضاً تأكيد استحالة إجراء عملية الانتقال السياسي في سوريا بوجود الأسد، المدعو للموافقة على الهدنة والانخراط في مفاوضات محسومة سلفاً، برفض أي دور له في أي اتفاق حول مستقبل سوريا، وهنا تبرز حالة التخبط والتوهان التي تضرب حكومة أردوغان، وهي تتهم واشنطن بدعم الإرهاب وهي تعرف منذ زمان بعيد أنها تدعم الكرد، لكنها تُضيف عليهم داعش التي يخوض التحالف الدولي بقيادتها حرباً ضروساً لدحرها في الموصل، ويؤكد سلطان زمانه امتلاكه أدلة ثبوتية على ذلك، ما يعني في محصلة الأمر أن هناك انقلاباً عسكرياً وسياسياً وستراتيجياً في المنطقة بأسرها.

ظل أردوغان الذي الحليف الأوثق لواشنطن في حربها لتغيير النظام في سوريا، وحوّل بلاده إلى ممر للمليارات والمجاهدين الراغبين في قتال الأسد، لكنه اليوم يعود لاتهامها بدعم داعش وعدم محاربة هذا التنظيم الإرهابي، فإذا سلمنا جدلاً بذلك، فإن المؤكد أنه تم بمعرفته ومشاركته، ونحن بانتظار ما وعدنا به من وثائق تفضح هذا الدعم، لكننا نلاحظ وندرك أن الرئيس التركي وهو يتقرب من موسكو، ويتباعد عن واشنطن وحلف الناتو، يطرح سؤالاً إن كان ذلك تحولاً ستراتيجياً، ام مناورة لابتزاز واشنطن والناتو الذي ما زالت تركيا عضواً فيه، وتدعوه لتغطيتها جويا في الباب، غير أن واشنطن أحبطت مناورته حين وصفت تصريحاته الأخيرة التي تتهمها بدعم داعش بأنها مضحكة، بينما هو يواصل التنازلات ليعلن أن الاتفاق الذي تم برعاية تركيا وروسيا، ودخل حيز التنفيذ قبل يومين هو فرصة تاريخية لإنهاء النزاع، وأنه يجب عدم تفويت هذه الفرصة بأي ثمن.

وبعد، فإن تخبطات أردوغان تشي بأنه ورغم هزائمه أمام الروس والإيرانيين والسوريين أيضاً، وانصياعه صاغراً إلى تسوية لم يكن يتوقعها، يتشبث بخيط أمل يتمثل في انكشاف سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ما يتعلق بالأزمة في سوريا، وإذا ما كان سيواصل سياسات سلفه الديمقراطي، ما يسمح له بالتراجع عن ما فرض عليه في موسكو، أما إن انتهج ساكن البيت الأبيض سياسات جديدة، ينفذ من خلالها وعوده الانتخابية، فسيكون أردوغان استبق الأحداث، ليكون شريكاً في التسوية المفروضة عليه، ويعني هذا أنه سينخرط في هذه المرحلة في بازار التسويات، بانتظار تبلور موقف واشنطن، ويتم التعبير عن ذلك بمواقف وتصريحات تؤكد من جهة أن أنقره لم تحد عن مسارها وتموقعها إلى جانب حلفائها، ومن جهة أخرى مناقضة، تؤكد أنها انعطفت بالفعل عن مسار قادته لست سنوات، وتورطت بمستنقعه السعودية وقطر، اللتان يبدو أنهما خرجتا من المولد بلا حمص، حسب التعبير الشعبي المصري، الذي ترجمه للفارسية وزير الدفاع الإيراني، بتأكيده استحالة مشاركة السعودية في المحادثات السورية، ونضيف من عندنا ومشيخة قطر أيضاً.

أردوغان يتخبط، وبينما تسود الفوضى بلاده، في حرب ضد الكرد، ومناوشات مع العلويين، وانقلاب داعش لتكون ضده بعدما ساعدها على التمدد والانتشار، ويدخل في تحولات ليست مضمونة النتائج، لأنها لاتخرج عن إطار المناورات، فهل يتقن الطامح لاستعادة أمجاد العثمانيين اللعبة الخطرة؟