السياسة التي يمارسها السياسيون بعامة أشبه بالدين الذي لا يعرفه المتدينون ورغم ذلك تقوم له دور للعبادة تتسم بالفخامة اللافتة وله كليات كبرى في الجىامعات فيها عشرات الأساتذة الذين يحملون أعلى الدرجات العلمية يدرسون علم الدين مع أن الدين ليس علماً، وهو ليس أكثر من مصفوفات متضاربة ومتناقضة من معتقدات أسطورية قديمة متوارثة . أما السياسة الحقيقية غير المتوارثة فهي علم مثله مثل سائر العلوم الأخرى، ورغم ذلك ليس له مدارس أو كليات متخصصة ولا أساتذة لهم علم فيه .كان علم السياسة يقترن تدريسه بعلم الإقتصاد خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أن الولايات المتحدة وقد ورثت بعد الحرب كل تراث الإمبريالية ومنه مقاومة الشيوعية ألغت علم السياسة ونجحت في تحريمه في البلدان التابعة لها حيث رأت أن علم السياسة يشجع على انتشار الأفكار الشيوعية .

كنا بعمر المراهقة في المدرسة في الصفوف الثانوية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وكان في الصف الثانوي الثالث 32 تلميذاً منهم 15 من الإخوان المسلمين و 15 من البعثيين وشيوعيان إثنان فقط . جميع الطلاب إستعاروا السياسة من رفاقهم في المدرسة أو خارجها ولم تكن من خياراتهم وهم بحكم سن المراهقة ليسوا مؤهلين للخيار السياسي وهو أصعب الخيارات، ومع ذلك كبر أولئك الصبية وعبروا سن الكهولة وتحمل بعضهم تضحيات صعبة وقاسية دفاعا عن سياسات ورثوها في الصغرقبل أن يدركوا أصولها ومرامبها . كل السياسة التي ورثها الصبية من الذين تأسلموا تنحصر في كلمتين " الإسلام هو الحل " وهو ما يعني أن حزب الإخوان المسلمين لا يمتلك برنامجاً للعمل وإدارة شؤون الأمة ولا يعلم منه شيئاً فالبرماج يرسمه الله بعد أن تؤسلم الأمة في حين أن البرنامج السياسي المحدد بالتفصيل هو المبرر الوحيد لقيام أي حزب ؛ وما يستوجب الإشارة إلية هنا هو أن حركة الإخوان المسلمين قامت أولاً كدعوة دينية وليست سياسية على عكس ما هي اليوم فهي حزب سياسي ولكن بدون سياسة !! جميع أولئك الذين تأسلموا في سن المراهقة ما زالوا متأسلمين في سن الكهولة ولم يثنهم عن الأسلمة رؤية الأمم المغرقة في الأسلمة أنهافي الحضيض فيما يخص التنمية المادية والبشرية . بات هؤلاء المتأسلمون يدافعون عن تاريخهم الشخصي وليس عن المبادئ – أصلاً الأسلمة ليست ذات مبادئ - يدافعون عن ذواتهم وقد تأسلمت دون وعي في الصغر ولن ترتد حتى لو علمت أن حركة الإخوان المسلمين أسستها المخابرات الإنجليزية في مصر في العام 1927 كي تقاوم الفكر الشيوعي وقد أخذ ينتشر بقوة يعد إنتصار البلاشفة في الحرب وهزموا 19 جيشاً جندتها الدول الرأسمالية لختق البلشفية في مهدها .

أما البعثيون فلئن أوكل المتأسلمون مبادئهم لله يقررها بعد أن تتأسلم الأمة، فقد أوكلها البعثيون لميشيل عفلق . تقرأ مبادئ حزب البعث في الوحدة والحرية والاشتراكية فتتملكك الدهشة كيف لرجل بثقافة ضحلة كميشال عفلق يخوض غمار الإبداع الفكري في صياغة دستور لحزب سياسي فيكتب مثل هذا الغثاء في كتيب من بضع وريقات يسمى "دستور" حزب البعث، إذ يهبط إلى مستوى كتابة درس الإنشاء للصفوف الابتدائية . يطالب بالإشتراكية ويقدس الملكية الخاصة !! وبالوحدة القسرية والبعثيون هم الذين قسروا سوريا للوحدة مع مصر عام 1958 وهم هم الذين فسخوها في العام 1961 – وما يستحق التسجيل هنا هو أن الشيوعيين عارضوا الوحدة القسرية في العام 1958 وعارضوا فسخها في العام 1961 - وطالب عفلق بالحرية وهو لا يعرف معنى الحرية . وقدس الإسلام لأنه صمد سداً منيعاً ضد الشبوعية كما رأى . رأينا تطبيقات مبادئ حزب البعث في سوريا والعراق فلم تعرف الشعوب العربية إبادتها بالأسلحة الكياوية إلا في ذينك البلدين المنكوبين بالبعث واللذين باتا اليوم مثالا للإنتكاب.

 

كل المتدينين لا يفقهون شيئاً في الدين الصحيحج ولو فقهوا لما تدينوا فالتدين يعتمد كلياً على الإيمان والإيمان لا يكون إلا لانتفاء اليقين . وبالقياس يجب أن يخجل السياسيون من أنفسهم عندما يكتشفون أنهم إنما يدافعون عن ذواتهم وليس عن السياسات الجوفاء التي يعلنون عنها، وهي السياسة التي لا علاقة لعلم السياسة بها بل إنها السياسة المناقضة أو المعاكسة للسياسة العلمية .

فما هي السياسة العلمية ؟

السياسة العلمية تقوم بداية على إدراك العوامل الرئيسة للتطور الاجتماعي وهي كما يلي ..

- تطور أدوات الإنتاج وتسارعه تقنياً .

- تنامي القوى المنتجة وتنظيم قوى العمل .

- علاقات الإنتاج وهشاشتها .

- الإدارة السياسية لتطوير علاقات الإنتاج وتغييرها .

- البنية الطبقية للدولة .

- سطوة القوى الرجعية ومصادر قوتها .

تلك هي العوامل الرئيسية للتطور وتنمية المجتمع وعلى هذا الأساس ينقسم السياسيون الفاعلون حقيقة في علم السياسة إلى قسمين متناقضين ومتحاربين : سياسيون تقدميون يعملون على زيادة القوى الدافعة لتقدم المجتمع على طريق التطور وقبالتهم سياسيون يعملون على لجم قوى التقدم . أما غير هاتين المجموعتين فهناك سياسيون لا لزوم لهم أو الأحرى سياسيون يجهلون علم السياسة لا بل هم ثقالةعلى قوى التقدم تمثلها ضروب شتى من السياسيين بينهم ..

الضرب الأول: ظهر بين الشعوب العربية جماعات متباينة تطالب بوحدة البلدان العربية بداعي اشتراكها في اللغة والتواصل الجغرافي وهو هدف القوميين العرب والبعثيين، أو وحدة المشرق العربي فقط وكان هدف البورجوازية الشامية في الثورة العربية الكبرى 1916، أو وحدة سوريا الكبرى كما يدعو الحزب القومي السوري الإجتماعي . هذا الضرب من السياسيين لا يدرك بأن العثمانيين تركوا البلدان العربية 1918 للإحتلال الأنجلو فرنسي بدون شعوب ذات كيانات موحدة بل ولايات غير محددة تضم جماعات سكانية في المدن والقرى معزولة لا يربط بينها رابط بدون أية وسائل مواصلات تساعد مجموعات السكان على التواصل، وتعتمد في معاشها على استزراع أرض السلطان مقابل أجر معلوم ؛ وكان السكان في البلدة لا يعرفون أحدا من بلدة مجاورة لا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات . لم يكن هناك أي مبرر لمطالبة البورجوازية الشامية بوحدة بلاد شرق المتوسط العربية سوى كون الصناعات اليدوية الشامية المتخلفة تصل إلى تلك البلاد (Catchment) وهي تفتقد كل العتاصر التي تستوجبها الوحدة . من هنا كانت رغائب الجماعات السياسية بالوحدة ليست إلا أحلاماً شامية مستنزلة من وراء الطبيعة لخدمة الصناعات الشامية. لأول مرة عرفت الشعوب العربية الكيانات الموحدة المستقلة، لها دولتها المستقلة، وسلطتها التشريعية، وقوتها العسكرية الخاصة بها، كان بعد خضوع البلدان العربية للإستعمار الغربي الأنجلو فرنسي واتفاقية سايكوس – بيكو التي يتوجب على السياسيين الذين لا لزوم لهم أن يكفوا عن شتيمتها . إتفاقية سايكوس – بيكو هي التي جعلت للأردني كما للسوري كما للبناني والعراقي وطناً خاصاً به وهوية خاصة يدافع عنها ويفتديها بروحه بل ولأول مرة عبر التاريخ المديد يشارك مواطن هذه البلدان في الحكم لم تتوفر له مثل هذه المشاركة حتى إبان الخلافات العربية. ما يجدر تأكيده في هذا السياق هو أن الدول الإمبريالية بعد أن هزمها البلاشفة على أرض روسيا في العام 1921 لم تعد تمارس السياسات الإمبريالية الكلاسيكية وانقلبت لتمارس مقاومة الشيوعية وهو ما يدفعها إلى توفير بعض المنافع للدول المستعمرة .

الضرب الثاني: بعد هزيمة أربع عشرة دولة رأسمالية إمبريالية على يد البلاشفة السوفييت في العام 1921 توكلت المخابرات البريطانيةفي إقامة مصدات لقوى دفع الثورة الشيوعية فكان أن أقامت منظمة للإخوان المسلمين في مصر، بالإضافة إلى الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا، وظيفتها الوحيدة هي مقاومة الشيوعية وقوى التقدم في مصر . كان من أجل أن تكون منظمة الاخوان المسلمينأكثر فعلاً في مقاومة الشيوعية توجب عليها أن تبدي مقاومة للإستعمار في مصر حيث كل الشعب انخرط في مقاومة الاستعمار . بغير مقاومة الشيوعية التي كانت السبب في تشكيلها ومقاومة الاستعمار التي فرضتها عليها الأمة لم تمتلك أبة سياسات أخرى وعليه كانت منظمة الإخوان المسلمين قد أعلنت نفسها بداية منظمة دينية وليست سياسية ولا تعنى بالسياسة من قريب أو بعيد .

 

الضرب الثالث : حال رحيل ستالين انتقل مركز القوة من قيادة الحزب الشيوعي إلى قيادة الجيش والجيش بحكم تقسيم العمل يتقدم في طليعة طبقة البورجوازية الوضيعة التي تمور صدورها بالحقد على الاشتراكية والشيوعية . في سبتمبر ايلول 1953 فرض الجيش على الحزب أن يتخذ قراراً خلافاً للقانون يلغي الخطة الخمسية الخامسة التي كان مؤتمر الحزب العام قد أقرها في نوفمبر 1952 والتي كانت ستجعل الاتحاد السوفياتي في العام 1955 أكثر بلدان العالم رفاهية . وبذلك تم تحويل الأموال المخصصة لتطبيق الخطة الخمسية إلى إنتاج الأسلحة . منذ العام 1953 استولى الجيش على موارد الاتحاد السوفياتي وجعل منه مصنعاً للأسلحة بدل أن يكون مصنعاً للإنتاج المدني متقدما على طريق الاشتراكية . استطاعت قوى الردة بقيادة عشرات المارشالات ومئات الجنرالات من تنفيذ ردتهم من وراء ستارة الحزب لكنهم في صيف 1957 لم يتمكنوا من استمرار اللعب في الخفاء فدبروا إنقلاباً عسكرياً ضد الحزب تم بموجبه طرد سبعة أعضاء من مجموع تسعة أعضاء في المكتب السياسي وعينوا بدلا عنهم من أزلامهم . الشيوعيون الذين كانوا ينتهجون نهج لينين خلف ستالين غدوا ينتهجون نهج خروشتشوف وراء خروشتشوف المتعاون مع العسكر . هؤلاء الشيوعيون الذين امتلكوا سياسات ماركسية علمية غدوا اليوم يعملون في سياسات علمية أيضاً لكن ضد السياسات الشيوعية أما سياساتهم المعلنة فهي بلا معنى على الإطلاق . جميعهم ينادي اليوم بالديموقراطية والعدالة الإجتماعية، والديموقراطية ليست إلا ميثاقاً سياسياً يحدد حصة كل طبقة من السلطة كما من الثروة متجاوزاً بذلك حدود الصراع الطبقي ولذات المعنى ما تقوله العدالة الإجتماعية . التاريخ القريب والبعيد في الغرب كما في الشرق أصدر حكماً قضى بزيف الديموقراطية والعدالة الإجتماعية حيث أنهما لم يحِدّا قيد أنملة من الصراع الطبقي وقد بلغ أوجه في الثمانينيات في موئل الديموقراطية بريطانيا عندما حاولت المرأة الحديدية "مارغريت ثاتشر" إحياء النظام الرأسمالي من جديد .

 

بدواعٍ أمنية كاذبة ومثيرة للسخرية إنقلبت البورجوازية الوضيعة بقيادة الجيش "الأحمر" - وقد عاد من برلين أصفر – على الإشتراكية بدءاً بإرغام قيادة الحزب على اتخاذ قرار غير قانوني يتجاوز صلاحيات اللجنة المركزية والمكتب السياسي بإلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي أقرها مؤتمر الحزب قبل عشرة أشهر فقط , ما زلت أذكر ذلك اليوم الأسود في تاريخ البشرية في سبتمبر أيلول1953 وقد كنت شيوعياً غراً لم يكمل العشرين من العمر حين استقبلت ذلك القرار بفرح غامر حرصاً على أمن مركز الثورة الاشتراكية العالمية كما أعلنوه كذباً ونفاقاً في حين أنه كان الضربة القاصمة للثورة الإشتراكية . استبدال الانتاج المدني الإشتراكي بالإنتاج العسكري الفاشي كان هو فحوى ذلك القرار الذي لم يقرر أحد مثله غير النازي أدولف هتلر . المهرب الوحيد للبورجوازية الوضيعة السوفياتية من الاشتراكية كان طريق التسلح ولا مهرباً غيره . ولما كانت الأسلحة ليست من البضاعة ولا قيمة تبادلية لها فبالتالي يتم إنتاجها على حساب قوت الشعب . لذا استمر مستوى حياة الشعوب السوفيتية في الهبوط منذ الستينيات وحتى تحلل الاتحاد السوفياتي والأمر هو كذلك لشعب روسيا اليوم فالبورجوازية الوضيعة الحاكمة لا تستطيع أن تتوقف عن التسلح لأنه المهرب الوحيد من الإشتراكية . ستظل الإشتراكية تلاحق العصابة الحاكمة في روسيا حتى دمارها .

 

أما البورجوازية الوضيعة في البلدان الرأسمالية سابقاً فقد آلت إليها السلطة بعد انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات وهي لم تغتصب سلطة الرأسماليين كما اغتصبت البورجوازية الوضيعة السوفياتية سلطة البروليتاريا في الإتحاد السوفياتي . لئن لم تجد البورجوازية الوضيعة السوفياتية مهرباً من الإشتراكية سوى طريق التسلح الذي لا نهاية له فالبورجوازية الوضيعة في الدول الرأسمالية سابقاً وبحكم تعاملها الطويل مع قانون القيمة لم ترَ في التسلح مهرباً مناسباً من الإشتراكية بعد أن لم يكن هناك أعداء دوليين للبورجوازية الوضيعة، وبعد أن بدا أن الثورة الشيوعية في معرض الإنهيار . كان لها طريق أخرى توفر مهرباً من الاشتراكية ألا وهو مضاعفة إنتاجها من الخدمات التي تشترك مع الأسلحة في عدم امتلاكها لأية قيمة تبادلية، ولذلك فإن كلفة إنتاجها تقع كلها على أكتاف البروليتاريا وتقتطع من صافي إنتاجها . بل إن الإدعاء أن الخدمات إنما هي إقتصاد مستقل تسميه البورجوازية الوضيعة "إقتصاد المعرفة" وقد غدت المعرفة بزعمها العامل الحدي في القيمة وعليه تتضاعف قيمتها التبادلية وعلى البروليتاريا أن تدفع أكثر لقاء الخدمات التي تستهلكها . النظام الرأسمالي نجح تاريخياً وتطور بسرعة لسبب رئيسي وهو أنه ذو قدرة فائقة على تحديد القيمة الرأسمالية لأبعد ما تكون الدقة وهو لم يحسب يوما قيمة للمعرفة في القيمة التبادلية لمنتجاته التي تعمل بإنتاجها كل المعارف التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ . الأكلاف العالية لانتاج الخدمات إضطرت دول البورجوازية الوضيعة إلى الإستدانة بعد أن لم يعد يكفي ما يحسم من أجور البروليتاريا . البورجوازية الوضيعة في الدول الرأسالية سابقا نافست البورجوازية الوضيعة السوفياتية في استغلال العمال وإزاحتهم من معركة التطور الإجتماعي .

 

العالم يعاني اليوم من الإنحدار إلى قرار الكارثة السحيق على طريق الفرار من الاشتراكية، إنتاج الأسلحة في روسيا الاتحادية وإنتاج الخدمات في الغرب الرأسمالي سابقاً . وما يزيد من خطورة هذه الكارثة الكونية هو أن عامة السياسيين لا يدركون ماهية سياساتهم غير العلمية .