وأنا في طريقي إلى مدينة وجدة المغربية لحضور الدورة الأولى لفعاليّات معرض الكتاب المغاربي، خيّل إليّ وأنا أنظر إلى الشاشات الصغيرة داخل الطائرة حيث يرتسم خط الرحلة من تونس إلى الدار البيضاء أن المدن التونسية والجزائرية والمغربية التي حلقت فوقها الطائرة، تتهامس لبعضها البعض بكلمات الشوق والحنين، معبرة كل واحدة منها عن ضيقها بكل ما يباعد،ويفصل بينها في حين أن التاريخ يثبت أن الصلات والروابط الروحية والثقافية والإقتصادية بينها كانت وثيقة، ومتينة. فخلال القرن العشرين، بعد أن إلتهم الإستعمار الفرنسي البلدان الثلاثة، ساعيا لمحو هوية شعوبها، وفرنستها،وتقويض مقوماتها الثقافية والحضارية،ولد في عقول وقلوب رموز النخب التوق إلى بناء مغرب موحد،قادر على أن يتحول إلى قوة إقتصادية وسياسية مُشعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط مثلما كان الحال في العصور الخوالي، سواء قبل الإسلام،أم بعده. وسعيا لتحقيق هذا الحلم، تأسست في العقد الأول من القرن العشرين "رابطة طلبة شمال إفريقيا"، وفتحت لها مقرا في جادة"سان-ميشال" بباريس. وسرعان ما تحول ذلك المقر إلى فضاء للنشاطات السياسية والثقافية المناهضة اللإستعمار الفرنسي. فقد كان الطلبة التونسيون والجزائريون يلتقون هناك لتدارس أوضاع بلدانهم، وإعداد مشاريع، طبخ أفكار تتعلق بمستقبل شعوبهم. وبعد الحرب الكونية الثانية، غاضبين على فرنسا التي أخلت بوعدها الذي أطلقته خلال مقاومتها للإحتلال النازي، أسس مناضلون وطنيون من البلدان المغاربية في القاهرة "مكتب المغرب العربي". فيه كان يلتقي علال الفاسي، والحيب بورقيبة، ود.الحبيب ثامر، وعبد الكريم غلاب، وعبد الكريم الخطابي،وآخرون. والوحدة المغاربية كانت الهم الذي يشغلهم، وينير لهم مستقبل بلدانهم. وفي الخمسينات من القرن الماضي، أندلعت الثورات الوطنية في البلدان المغاربية من أجل الحصول على الإستقلال. وعلى مدى سنوات الكفاح المريرة، ظل التضامن بين التونسيين والجزائريين والمغاربة قائما فلم تزعزعه تهديدات الفرنسيين، ولم تفتّ فيه أسلحتهم المدمرة وجيشهم الذي لم يكن يتردد في إقتراف المجازر الرهيبة،وترهيب السكان،وترويع الأطفال والنساء. و متوهمة أن منحها الإستقلال لكل من تونس والمغرب في نفس السنة، سنة 1956، سيجعلها أكثر قدرة على سحق المقامة الجزائرية،وإضغاف التضامن بين الشعوب المغاريبة. إلا" أن الواقع سرعان ما أثبت فداحة خطئها. فقد ظل المغرب وتونس وفيين لشقيقتها الجزائر طوال سنوات حرب التحرير المريرة،مستقلين بالأحضان مئات من آلاف اللاجئين،ومتحديين الضربات العسكرية الموجعة التي كانت تقوم بها فرنسا ل"تأديبهما"٠ وفي تلك الفترة، نشر الراحل الكبير كاتب ياسين الذي ظل حتى النهاية يحلم بمغرب عربي موحد، مقالا حمل عنوان:”من يوغرطه الى فرحات عباس"، وفيه كتب يقول بإنّ الشعوب المغاربية توحدت دائما، عبر مختلف مراحل التاريخ، لمواجهة الأعداء والغزاة. وعندما وقعت تحت الهيمنة الاستعمارية، كان التضامن في ما بينها من الأدوات التي ساعدتها على الحفاظ على شخصيتها الوطنية. و في نفس المقال يشير صاحب"نجمة" الى أن إستقلال البلدان المغاربية لن يتحقق فعليا، ولن يكون نافعا ومفيدا لشعوبها ونخبها الثقافية إلاّ في ظل وحدة بينها. وهي وحدة "تشرّعها عوامل تاريخية وثقافية وجغرافية" بحسب تعبيره. غير أن حلم الوحدة المغاربية سرعان ما شهد أول إنتكاسة له في مطلع الستينات من القرن الماضي. فقد إندلعت بين المغرب الجزائر ما سمي في ذلك الوقت ب"حرب الرمال". وربما تكون تلك"الحرب القذرة" هي التي راكمت الأحقاد والضغائن التي ستفجر في اواسط السبعينات من القرن الماضي "حربا صامتة" بين البلدين بشأن الصحراء. وعلى مدى أربعة عقود، فشلت كل المساعي العربية،والدولية في إيجاد حلّ لهذه المعضلة التي لا زالت تسبب لكل من المغرب والجزائر خسائر ٠إقتصادية جسيمة،مدمرة كل مسعى لتقارب بينهما. وقد ازدادت أزمة الصحراء تعفنا وتعمقا بعد تم غلق الحدود بلين البلدين من دون أدنى اهتمام بمشاعر شعبن شقيقين تقاسما على مدى عصور ودهور نفس المصير، مظلما كان أم مشرقا. مع ذلك لم ينقطع مثقفون وكتاب وشعراء ومفركون من تونس،ومن الجزائر، ومن المغرب عن الحلم بالوحدة مثلما كان حال كاتب ياسين،وآخرون من جيله. ورغم المصاعب، هم يسعون في كل فرصة من الفرصؤ التي تتاح لهم،إلى التعبير عن أملهم الحارق في تحقيق هذا الحلم،وإصلاح ما أفسدته السياسات الخاطئة على مدة عقود طويلة. ويأتي تنظيم دورة سنوية لمعرض للكتاب المغاربي في مدينة وجدة، القريبة من الحدود الفاصلة بين المغرب والجزائر،والنازفة مثل جرح متقيّح، كمحاولة لإعادة الإشراقة لأمل شعوب تعبت من الإنقاسامات والنزاعات المدمرة لطاقاتها،ولروابطها الروحية والإجتماعية والتاريخية. وقد تكون وجدة منطلقا لمثقفي دول المغرب العربي للتكاتف والتضامن، وإحياء ما سماه كاتب ياسين ب"المقاومة الثقافية" بهدف مواجهة القضايا الخطيرة والساخنة التي تهدد بلدانهم. وأول هذه المخاطر التطرف الديني الذي أغرق الجزائر في الجريمة والدم طوال عقد التسعينات، والذي لا يزال يهدد أمنها واستقر ارها حتى هذه الساعة. كما أنه يهدد أمن واستقرار تونس والمغرب، باسطا ظلماته على جزء هام من الأجيال الصاعدة. أما الخطر الآخر فهو تفاقم الأزمات الإقتصادية والإجتماعية لتتحول إلى قنابل موقوته قد تعصف باستقرار وأمن أي بلد من البلدان الثلاثة. ولعل "ثقافة المقاومة" هي التي تكون قادرة على إجبارر السياسيين على إطفاء نار الخلافات والنزاعات ةفيزمن العولمة، و والتكتلات الكبرى، والتحديات العالميّة الخطيرة.