أتذكر أنى قرأت في أواخر القرن الماضي، انه يوجد في بريطانيا مجلس استشاري (غير حكومي) يشبه إلى حد كبير ما يسمى في العرف العربي "مجلس الحكماء". أعضاء هذا المجلس هم شخصيات سياسية وفكرية وعلمية مرموقة ومحايدة، تقلدت عدة مناصب رسمية لفترة طويلة اكسبتها الخبرة السياسية والحكمة والحنكة وبعد النظر الثاقب. مهمة هذا المجلس هي تقييم الوضع السياسي العام في بريطانيا من فترة لأخرى، وإبداء الرأي وإعطاء المشورة للأحزاب السياسية البريطانية، والعمل على توجيه الرأي العام البريطاني عبر وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لدعم الإصلاحات السياسية المطلوبة في وقتها وزمانها. 
في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وبعد ان بقي حزب المحافظين بزعامة "مارغريت تاتشر" و "جون ميجور" في سدة الحكم لمدة 16 سنة (من 1979 الى 1996) أي أربع دورات انتخابية متتالية، عد المجلس الاستشاري سيطرة حزب المحافظين على السلطة لهذه الفترة الطويلة نسبيا ظاهرة سياسية غير صحية، وتناقض الهدف من الديمقراطية القائم على مبدأ تداول السلطة بين الأحزاب السياسية ذات الأغلبية الشعبية. بل عد بقاء المعارضة خارج السلطة هذه الفترة الطويلة بمثابة إلغاء لها وكأنها غير موجودة، وطالب صراحة بالعمل على توجيه الرأي العام من اجل كسر ظاهرة احتكار أي حزب للحكم لفترة طويلة، يصاب خلالها الحزب الحاكم بالترهل السياسي، وينتشر فيه بعض مظاهر الفساد المالي والإداري.
المجلس الاستشاري – وقتها - نصح علانية قادة حزب المحافظين بإقصاء "تاتشر" من زعامة الحزب لأنها ببساطة أصبحت عبئا ثقيلا عليه نتيجة مواقفها المتصلبة من الاتحاد الأوروبي، واصابتها بالغرور الشخصي وتعاليها على وزراءها وتوجيه التوبيخ لبعضهم بسبب وغير سبب. وقد اخذ قادة الحزب بتلك النصيحة وتم اقصاءها من الزعامة عام 1990م. كما نصح المجلس الاستشاري حزب العمال المعارض آنذاك بتجديد زعامته ودعمها بعناصر شابة مؤهلة تستطيع تقديم برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تجذب اليها الناخب البريطاني. وقد اخذ حزب العمال بهذه النصيحة واستطاع ان يكسب الانتخابات عام 1997م بزعامة "توني بلير" وقتها ويقصي حزب المحافظين عن السلطة.
إذا أجرينا مقارنة بسيطة بين ما جرى في بريطانيا وما يجري في البلدان العربية التي تطلق على نفسها جمهوريات ديموقراطية والتي يسمح نظامها السياسي بتشكيل أحزاب سياسية، نرى بوضوح احتكار السلطة في ايدي أحزاب الأنظمة الحاكمة التي تولت السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، وهي الأحزاب التي انشأتها النظم العسكرية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي عندما شعرت بحاجتها الى قواعد شعبية منظمة تدعم سياساتها. وقد تنوعت أيديولوجيتها بين الإصلاحية والثورية معتمدة الى حد كبير على الشخصية الكاريزمية لقائد الثورة / الانقلاب. هذه الأحزاب بحكم نشأتها ارتبطت (ولا تزال) بالنظام الحاكم وعارضت المنافسة الحزبية التي هي أساس النظام الديمقراطي.
تعمل الأنظمة في هذه الدول على دعم احزابها والتأكد من فوزها الكاسح على منافسيها من الأحزاب الأخرى في الانتخابات التي هي في أكثر الأحيان شكلية. ومن الوسائل التي تلجأ اليها الأنظمة الحاكمة لدعم احزابها ما يلي:
السيطرة الكاملة على الأجهزة الإعلامية الرسمية وغير الرسمية وتوجيهها لخدمة ودعم حزب النظام.
سن قوانين انتخابية تصب في صالح حزب النظام.
توزيع المناطق والدوائر الانتخابية بطريقة تضمن التفوق العددي لمرشحي حزب النظام.
استخدام أساليب الترغيب والترهيب للتأثير في الكثير من الناخبين من اجل التصويت لمرشحي الحزب الحاكم.
وحيث ان الحكمة تقول: "السلطة المطلقة تدعو الى الفساد المطلق"، فان هذه الأحزاب وفي ظل غياب المراقبة والمساءلة الشعبيتين قد أصيبت بالترهل السياسي والشلل الوظيفي، وتفشت مظاهر الفساد المالي والإداري بين أعضاءها وخصوصا من هم في قمة الهرم، وفشلت هذه الأحزاب والأنظمة الحاكمة التي تمثلها وتدعمها في الدخول الى العصر الحديث بأوصافه الديمقراطية الحقيقية. كما فشلت في تحقيق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدانها، والأسوأ من ذلك ان من بين هذه الأحزاب من عرض وطنه الى غزو أجنبي او اسقطه في أتون الحرب الاهلية وعرضه الى عزلة دولية وإقليمية.
السؤال: هل يستطيع المواطن العربي ان يحلم بتشكيل مجالس للحكماء العرب في البلدان العربية التي هي بحاجة ماسة الى هذا النوع من المجالس، وخصوصا ان الوطن العربي يزخر بمثل هؤلاء الحكماء الشرفاء الذين لا ينقصهم العلم والفكر والوطنية مقارنة بنظرائهم البريطانيين؟