نعلم أن أدباء وشعراء كبار زروا القيرون باعتبارها أول مدينة إسلامية في المغرب بعد سقوط قرطاجالفينيقية والرومانية.وكل واحد من هؤلاء كتب عنها بطريقته الخاصة ،ومن خلال رؤية معينة فمنهم من فتن بها،ومنهم من استقبحها ونفر منها إذ بدت له تجسيدا للخراب والقحط والموت.

أول هؤلاء هو الألماني الأمير بوكلير موسكاو الذي زارها 1835. وكان هذا الأمير قد غادر بلاده فارّا من أزمات نفسية و مصاعب مادية كان يعاني منها إثر طلاقه من زوجتهوفي تونس استقبله الباي ووزراؤه وسمحوا له بالطواف في البلادوبالرغم من أن زيارة القيروان كانت محرمة على المسيحيين في ذلك الوقت، إلاّ أن الآمير بوكلير موسكاو تمكن من دخولها بإذن من الباي، من دون أن يسمح له بزيارة الجامع الكبير الذي بناه عقبة ابن نافعوقد كتب هذا الأمير يقول : » كانت هذه المدينة(يقصد القيروان)لمدة طويلة عاصمة للإمبراطورية العربية في إفريقيا، ومركزا للعلومأما اليوم فهي مشهورة بقداستها وبحذّائيها الذين يصنعون أحذية من الجلد الفاخر تعتبر أجود أحذية في بلاد البربرولا يرى المرء أجدب وأقحل من المناطق الحيطة بهذه المدينة،وأنه ليصعب علينا الآن أن نتصور أن هذه المقاطعة كانت في العصور السالفة خصبة ومزدهرة، بحسب ما وصفها لنا المؤلفون القدامى، والدليل على ذلك هو ما تجده في أماكن أخرى من بقايا عديدة لمدن كبيرة". و الثاني هو الكاتب الفرنسي غي دو موباسان الذي زاره القيروان في شتاء عام 1890.وقد بدأت الرحلة من تونس إلى القيروان في التاسع من شهر ديسمبرلتنتهي في الثالث عشر من نفس الشهروقد حرص غي دو موباسان على تدوين مشاهداته بدقة متناهية فلم يغفل عن أي شيء رآه في طريقه إلى القيروان مرورا بقرمبالية، وبوفيشه،والنفيضة.وهناك أشياء كثيرة لفتت إنتباهه.من ذلك مثلا أنه شاهد عددا كبيرا من أضرحة الأولياء .وهو يقول بإن هذه الأضرحة مزروعة في كل بلاد الإسلام من طومبوكتو إلى الخرطوم، مرورا بطنجة، وفاس، وقسنطينة،وطرابلس،والقاهرة.وهو يصفها على النحو التالي :"هي صغيرة ومستديرة ومعزولة، وشديدة البياض حتى أنه

تقذف إلتماعاتوهي تبدو وكأنها مسكونة ببذرة إلهية زرعها النبي محمد أخو عيسى، وموسى".

بعد أن تجاوزت عربة الخيول النفيضة، قلت الأشجار ثم انعدمت تماما لتنبسط الأرض عارية حزينة ،تنتشر عليها جثث حيوانات نفقت من الجوع والعطش.وكانت الكلاب السائبة تنهش البعض من تلك الجثثويعود ذلك إلى الجفاف المستمر منذ 15 شهرا .وقبل الوصول إلى القيروان حرص غي دو موباسان على رواية الأسطورة التي تقول بأن موضعها كان غياضا متشابكة تسكنها الوحوش والأفاعي.إلاّ أن عقبة بن نافع صاح فيها طالبا منها باسم الله ورسوله أن ترحل بعيدا فاستجابت لطلبه

وكانت العربة تقترب من القيروان لما شرعت الأمطار في الهطول بغزارة حتى أن الخيول باتت تجد صعوبة كبيرة في التقدموفجأة لاحت صومعة الجامع الكبير وسط الضبابوعن ذلك كتب موباسان يقول:» وسط الضباب، لمحت برجا دقيقا مُدَبّبا بالكاد يرى،ويكاد لونه لا يختلف كثيرا عن لون الضبابوكانت صومعته ترتفع في الأعاليإنه تجلّ غامض وآسر يتوضّحُ شيئا فشيئا،ثم يتخذ شكلا أكثر جلاء ليصبح صومعة منتصبة في السماء من دون أن نرى شيئا آخر غيرها.لا شيء حولها ولا شيء فوقها :لا مدينة، ولا جدران، ولا صوامع مساجدوكانت المطر تسيط وجهنا.وها نحن نسير ببطء باتجاه تلك المنارة المتنصبة أمامنا مثل برج غامض سوف يختفي بعد قليل ويضمحل في الضباب الذي كان قد برز منه . « .وعندما تقترب العربة من مقام أبي زمعة البلوي، تظهر المدينة التي يصفها موبايان بّكتلة مُبّهمة وغير محدودة وملتبسة خلف ستار المطر". عندئذ بدت له المنارة أقل ضخامة مثلما كان حالها قبل قليل فكما لو أنها غرقت للتو بعد أن كانت قد ارتفعت لتقود الزوار إلى المدينة.

والنطرة الأولى إلى القيروان توحي لموباسان بما يليأوه...يا للمدينة الكئيبة،الضائعة في الصحراء،وفي هذه الوحدة العارية الموسومة بالخراب .عبر الشوارع الضيقة والمتعرجة، كان العرب والتجار في دكاكينهم ينظرون إلينا ونحن نمر .وعندما التقينا امرأة ، شبحا أسود بين الجدران التي صفرها المطر، بدت وكأنها الموت وهو يجوس نزل موباسان ورفاقه ضيوفا على الشيخ محمد المرابط، عامل المدينة.وهو رجل تقي ورع حج إلى بيت الله الحرام، واكتسب مكانة مرموقة بين أهالي القيروان.وقد أنسى كرم الضيافة، وطيب المقام موباسان ورفاقه تعب الرحلة ومشاقها.كما أنساهم الكآبة التي استبدت بهم خلال جولتهم الأولى في المدينة.

في اليوم التالي، كانت السماء جميلة ، شاحبة، ونظيفة مبشرة بالحرارة وبالنور الوافر. .بعد زيارة إلى بروطة، دخل موبسان بصحبة رفاقه إلى الحماموعند خروجهم منه،غمرتهم نشوة الفرح فقد كانت الشمس تضيء الشوارع، وإذا المدينة بيضاء مثل كل المدن العربية إلاّ أنها كانت أكثر توحشا،وتميّزا وأكثر سحرا رغم فقرها الجليّ، ونبلها البائس المتعالي.

في الأيام التالية زار موباسان ورفاقه معالم المدينةلكن العلمين اللذين استأثرا باهتمامهم أكثر من بقية المعالم هما الجامع الكبير، ومقام ابي زمعة البلوي ،أو سيدي الصحبيوأمام عظمة الجامع الكبير،أصيب موباسان بالدهشة، مبديا إعجابه بروعة المعمار وبالذين أننجزوه على تلك الصورة الآسرة، وهو يصفهم قائلا بأنه "شعب تقيّ، منعصب لعقيدته، تائه في الأرض ورغم أنه بالكاد كان قادرا على إقامة حائط، فإنه استطاع أن يغزو بلادا كانت تحت سيطرة آخرين.ومن آثار هؤلاء،وأطلالهم جمع كل ما تركوه من أشياء بديعة ليبنوا بيت الله. .ويضيف موبايسان قائلا بأ ن عظمة الله تتجلى من خلال روعة معمار الجامع الكبير.و أما الآداب الأخلاقية السمحة للإسلام فتنبسط أكثر ممما تعلو وترتفع.وهي تصدمنا بانتشارها أكثر مما تصدمنا بعلوهاوقد سمح لموباسان ورفاقه بالصعود إلى المئذنةومن وحي ذلك كتب يقول : »بدت القيروان تحت أقدامنا وكأنها ضامّة من سقوف الجبس ومن كل النواحي تنبثق متألقة قباب وأضرحة .حول المدينة على مدى البصر، صحراء صفراء، لا متناهية، وهنا وهناك تظهر مواضع الصبار الشوكي الخضراءهذا الأفق فارغ بلا نهاية .وكئيب،وأشد إيلاما من الصحراء نفسهاكما أعجب موباسان بمقام أبي زمعة البلوي الذي وجده أقل أبهة من الجامع الكبير لكنه بديع بألوانه وزخارفه وعظيم في تواضعه.

كما زار القيروان الشاعر الألماني الكبير راينار ماريا ريلكهحدث ذلك في شهر في ديسمبركانون الأول 1910. وبعد أت جول في العاصمة وأسواقها ، إنتقل إلى القيروان وفيها إكتشف جوانب من الحضارة الاسلاميةجوانب التصوف والزهد والايمانوفي رسالة بتاريخ 21 ديسمبر، يشير إلى أن القيروان مدينة مقدسةوالشيء الذي أعجبه أكثر من غيره هو جامعها الأعظم الذي استخدمت في بنائه أعمدة كثيرة من آثار قرطاج والمدن الفينيقية والرومانية.ويشير ريكله أيضا إلى أن القيروان تقع وسط السهول وأنها محاطة بالمقابر لذا هي بدت له وكأنها محاصرة بالموتى.موتى راقدون حولها يزدادون عددا ولا يتحركون أبدا". وقد بدأ اهتمام ريكله بالاسلام في وقت لاحق لرحلته هذه ويبدو أن هذا الاهتمام قد ازداد قوة بعد قراءته لـ"الديوان الشرقيلغوته.. وفي رسالة بعث بها إلى صديقته لو أندرياس سالومي يشير ريلكه إلى أن كلبا أصفر عضّه في القيروانوقد روعته تلك العضة وأشعرته أنه في المكان الخطأأما الليلة التي أمضاها في أحد فنادق المدينة فقد كانت ليلة بيضاء إذ أنه لم يذق للنوم طعما بسبب هجمات البعوض والبراغيث.

ف وفي ربيع عام 1914 زار القيروان الفنانان الكبيران باول كلي وأوغست ماكهومن تلك الرحلة الشهيرة في تاريف الفنون التشكيلية، استوحيا أإعمالا فنية بديعه يوجد أغلبها في متحف الفن الحديث في مدينة ميونيخ.حال وصولها إلى القيروان، سلّم باول كلي وأوغست ماكه نفسيهما طوعا الى حركة المدينة ،وإلى إيقاعاتها ،وألوانها ،وأشكالها الهندسيّة البديعة.وتبدو الليلة الأولى في العاصمة الأغلبيّة كما لو أنها ليلة مستوحاة من "ألف ليلة وليلة".وشيئا فشيئا ،يتّسع النور ،ويصبح ساحرا مثل حلم بديع فيمتلك الفنانين امتلاكا لا مثيل له.عندئذ يكتب باول كلي :أترك العمل.الأجواء المحيطة بي تغمرني بلطف فأصبح شيئا قشيئا أكثر وثوقا من نفسي:اللون يمتلكني.وليس هناك أي ضرورة للإمساك به.هو يمتلكني وأنا أعرف ذلك.هذا هو معنى اللحظة السعيدة:اللون وأنا شيء واحد.أنا رسّام".ولعل هذه الجملة تفسر بوضوح أكثر نظريته الفنية التي تربط المادة بالحلم.

وفي يوميّاته عن القيروان ،كتب باول كلي بتاريخ 16 أفريل-نيسان1914،يقول:”الصباح أمام المدينة.رسمت في ضوء مشتّت قليلا.شفّاف وناعم في نفس الوقت.بلا ضباب.ثمّ رسمت في الداخل.دليل غبيّ يمزح مزاحا متكلّفا .علّمة أوغست بعض الكلمات البذيئة في اللغة الألمانيّة.عند الظهر قادنا الى المساجد.الشمس في أقصى درجات لهبها.بعد أن سرنا راجلين مسافة قصيرة،ركبنا حمارا.عند المساء،جولة في الشوارع.مقهى تزيّنه لوحات.رسوم مائيّة جميلة.نختلس النظرات ونحن نشتري إلى تجمّع أحدثه ظهور فأر.في النهاية قتل بضربات من نعل.جلسنا على رصيف مقهى.سهرة بدرجات ألوان رهيفة ودقيقة".

في اليوم التالي ،كتب باول كلي في يوميّاته يقول:”مرّة أخرى أمضيت الصباح في الرسم أمام المدينة،بالقرب من السّور،على كدْس من التراب.بعدها سرت وحيدا لأني كنت في حالة من الجذل والإنتشاء،واجتزت بابا لأصل الى خارج المدينة حيث تنتصب بعض الأشجار.والأشجار هنا نادرة.وإن هي وجدت فإنها لا تكون مجتمعة إلاّ نادرا.ثمّ انتبهت الى أن الأمر يتعلق بحديقة صغيرة.مسبح مليئ بنباتات مائيّة ،وبالضفادع،والسّلاحف".وفي اللوحات التي رسمها في القيروان ،نعاين أن باول كلي اهتمّ بخصائص المدينة في جوانبها المعماريّة ،وبألوانها مركزا بالخصوص على اللون البني والأغمر ،وهو لون المساجد،ولون السّور الذي يحيط بالمدينةويحضر أيضا اللون الأبيض ،لون المقابر.واللون الأخضر ،لون الأبواب .كما فتن باول كلي بالزرابي القيروانية التي تتعدّد فيها الألوان وتتشابك ،وتتقاطعورغم أنه لم يرسم نساء ،فإننا نلاحظ حضورهن الخفي في أغلب اللوحات التي بدت وكأنها تجسّد ما كتبه باول كلي في يوميّاته قبل أن يزور تونس :”كنت أرغب في أن أضع الحبّ في كلّ شيء.وكان باستطاعتي أن أفعل ذلك لأنني أمتلك الموهبة الضرورية في هذا المجال”.. وكانت اللوحة الأخيرة التي رسمها باول كلي بعنوان:”وداع القيروان".وقد رسم المدينة وهو يغادرها.فنرى في اللوحة السور ،والمآذن والمقابر المحيطة بها.ونحن نتأمل اللوحة نشعر أن باول كلي غادر المدينة المقدسة التي شهدت ولادته الحقيقية كرسام وفي قلبه حزن عميق .فلكأنه غادر الحبيبة التي فتنته وملكت قلبه محدثة تحوّلات رائعة في وجدانه وفي حياته وفي رؤيته الفنية،ومتيحة له أن يعيش تجربة فريدة من نوعها.تجربة يمكن اعتبارها محطة أساسية في الفنون التشكيليّة الحديثة ،تميّزت بالخصوص بإحداث قطيعة مهمة وجوهرية مع الرسّامين الإستشراقيين الذين كانوا كثيرين في ذلك الوقت.