في زمن التقشف والادخار الاجباري والغلاء الفاحش في إقليم كردستان،حُكم على موظف في بلدية قضاء كفري الذي يقع على الجانب الشرقي من مدينة كركوك ويتاخم السليمانية ومندلي، بالحبس ( 10 عاما )، بسبب اتهامه بسرقة (الحليب المجفف) لطفله الجائع الذي يبلغ عامين تقريبا ولا يملك ثمنه بسبب التقشف والادخار الاجباري والغلاء في ظل تطبيق سياسة التقشف من قبل حكومة الإقليم الفاشلة لمواجهة الازمة المالية والتي ادت في الواقع الى ازدياد معاناة الشعب وخاصة الفئات الاجتماعية الفقيرة والهشة والموظفين الذين يشكلون نسبة( 28.60% )من مجموع سكان الإقليم البالغ عددهم نحو( 5) ملايين نسمة. 
هذا هو ملخص الحكاية التي انشلغت بها (محكمة جنايات كركوك – كرميان ) في اقليم كردستان منذ سنة تقريبأ.
كانت بداية الواقعة قبل سنة تقريبأ، عندما ألقت أجهزة الشرطة في قضاء كفري القبض على ( أب )التقطته كاميرات لسوبرماركت يسرق فقط الحفاطات وحليب الاطفال، وبمواجهته أقر بفعلته وسببها..
مَثُل ( المتهم الخطير جدا والذي هدد الامن الغذائي في إقليم كردستان ) أمام النيابة ولم يحاول أن ينكر فعلته، لكنه برر ذلك بقوله: اول مره اسرق في حياتي وانا قابل لحكم المحكمة واتمنى ان يكون الحكم مخفف قابل للاستئناف، ماذا افعل... الديون والحاجة دفعتنى للسرقة، ابني كان بحاجة الى الحليب والحفاظات, وكان يتضور جوعا، وبسبب فقري واحتياجي الشديد قررت الاستيلاء عليها بهذه الطريقة. 
وبعد عام من السجن والتحقيق في ملف المتهم البالغ من العمر49 عاما، حكمت المحكمة يوم الخميس المصادف (29 نيسان 2017 ) على المتهم وفق المادة ( 443 )*من قانون العقوبات العراقي الخاص بالسرقة بالسجن (عشر سنوات)، بالرغم من ان اصحاب الدكاكين الذين سرق منهم المتهم، اعفوا عنه وخاصة بعدما عرفوا بانه موظف بائس راتبة الشهري 300 الف دينار وبعد العمل بنظام الادخار خفض راتبه الى 150 الف دينار فقط والذي يدفع نصفه تقريباً للإيجار والباقي للفاتورة الشهرية، وغيرها من الاحتياجات الضرورية، وان راتبه لا يكفي لسد إحتياجات أسرته وعليه اُجبر على اللجوء إلى السرقة لرعاية أطفاله؟! 
أما الرافضون لإدانة سارق الحليب، فيعون جيداً ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية المزرية في الإقليم نتيجة التقشف و تأخير دفع رواتب الموظفين والادخار الاجباري، وهم مندهشون من انعدام الرحمة في قلب القاضي الذي حكم على سارق الحليب والحفاظات بـ( 10 سنوات ). 
انا هنا لاادافع عن السارق او المتهم ابدا، واطلب ان ينال كل سارق عقابه العادل ولا يجب أن تمر الجريمة مهما كانت حجمها مرور الكرام، ولكن، وفي نفس الوقت, يجب ان يسود القانون على الناس بجميع طبقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, نعم، يجب ان يكون القانون والنظام يطبق على القاضي قبل الواقف أمام القاضي....!!
نحن لسنا بحاجة الى قانون (مبصر أعمى)، يفتح عيونه على السارق الصغير والفقير ويغمض عينه عن السارق الكبير (الحيتان الذين ابتلعوا أموال وثروات الوطن ولا احد يستطيع ملاحقتهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم ).
اختتم مقالتي بقصة واقعية ومؤثرة في هذا الجانب قد تختصر كل المعاني وهي: 
( يحكى أنه في إحدى المقاطعات الأمريكية تم جلب رجل عجوز قام بسرقة رغيف خبز ليمثل أمام المحكمة، واعترف هذا العجوز بفعلته ولم يحاول أن ينكرها لكنه برر ذلك بقوله: " كنت أتضور جوعاً، كدت أن أموت".
قال له القاضي: أنت تعرف أنك سارق وسوف أحكم عليك بدفع 10 دولارات وأعرف أنك لا تملكها لأنك سرقت رغيف خبز، لذلك سأدفعها عنك....!!.
صمت جميع الحضور في تلك اللحظة، وشاهدوا القاضي يخرج 10 دولارات من جيبه ويطلب أن تودع في الخزينة كبدل حكم هذا العجوز.
ثم وقف فنظر إلى الحاضرين وقال: محكوم عليكم جميعاً بدفع 10 دولارات، لأنكم تعيشون في بلدة يضطر فيها الفقير إلى سرقة رغيف خبز....!!.
في تلك الجلسة تم جمع 480 دولاراً ومنحها القاضي للرجل العجوز....) 
وهنا اسأل نفسي وكل من يهمه الامر: الم يكن بمقدور قاضي محكمة جنايات كركوك – كرميان أن ينظر إلى المتهم بعين الرأفة، ويقدر ظروفة الإنسانية والمعيشية الصعبة وخاصة ان المتم سرق الحليب من باب الحاجة وهو أب لأربعة اطفال وموظف بائس يعاني من الفقر والعوز والحرمان ويعيش في ظل تطبيق سياسة التقشف من قبل حييتان الفساد الذين يسرقون قوت الشعب من باب زعامة الموقف وتحقيق الثراء الفاحش على حساب جوع شعب الإقليم ومعاناته.... )؟ الم يكن بمقدور القاضي أن ينظر إلى المتهم بعين الإشفاق والإنسانية ويستند في حكمه على المادة ( 132 )من قانون العقوبات العراقي والتي تنص على: 
اذا رأت المحكمة في جناية أن ظروف الجريمة او المجرم تستدعي الرأفة جاز لها أن تبدل العقوبة المقررة للجريمة على الوجه الاتي: 
1 عقوبة الاعدام بعقوبة السجن المؤبد او المؤقت مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة, 2 عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المؤقت, 3 عقوبة السجن المؤقت بعقوبة الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر)؟ 
من يحاكم ويحاسب كبار المسؤولين والحكوميين المتورطين في الفساد الإداري والمالي وهدر المال العام ونهب ثروات الإقليم؟ من يحاسب المتسببين الرئيسيين في الكوارث التي حلت بالشعب وخاصة بعد ان هيمنت الاحزاب والاسر الحاكمة على جميع مقاليد الحكم وعلى كافة الموارد الاقتصادية في الإقليم بدءً من النفط ووصولاً لشركات استثمار العقارات والاتصالات والانترنت منذ عام 1991 الى اليوم؟ من يحاسب الذين تسببوا في تجويع وتفقير وإذلال وتدمير الشعب الذي يتضور جوعا؟ 
كان الاحرى بالسيد القاضي ان يرضى ضميره، وان يكون صادقأ مع نفسه ونزيها في مهنته ويحاكم (القطط السمان وحيتان الفساد ) الذين يجوعون الشعب ويسرقون قوته وثرواته ونفطه لتحقيق الثراء الفاحش على حساب جوع الشعب ومعاناته. 
يا للعار... يحاكمون من سرق علبة حليب ويتركون من نهب وفرهد وسرق البلد..!!
يحيا العدل وتحيا محكمة جنايات كركوك كرميان. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تنص مادة 443 من قانون العقوبات العراقي على: 
يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنين على السرقة التي تقع في احد الظروف الآتية:
اولا – اذا ارتكبت باكراه.
ثانيا – اذا ارتكبت بين غروب الشمس وشروقها من شخص يحمل سلاحا ظاهرا او مخبأ.
ثالثا – اذا ارتكبت بين غروب الشمس وشروقها من ثلاثة اشخاص فأكثر.
رابعا – اذا ارتكبت بين غروب الشمس وشروقها في محل مسكون او معد للسكن او احد ملحقاته.
خامسا – اذا ارتكبت بين غروب الشمس وشروقها في مصرف او حانوت او مخزن او مستودع دخله السارق بواسطة تسور جدار او كسر باب او احداث فجوة او نحو ذلك باستعمال مفاتيح مصطنعة او انتحال صفة عامة او الادعاء باداء خدمة عامة او بالتواطؤ مع المقيمين في المحل او باستعمال أية حيلة.