كادت أقاويل واتهامات الاسلاميين عندنا وتكتلاتهم السياسية بان العلمانية وأتباعها تقف بالضد من الدين وشعائره تخسر رهانها؛ فلم يعد تنطلي هذه الاكاذيب على المجتمع ومنها اتهام العلمانية بانها تسلك منهجا بالضد من الدين وبالضد من الخالق وكونها صادرة من الغرب الكافر من اجل الهيمنة على عقول المسلمين.

وقد تكشفت للملأ الاكبر من الناس ان هؤلاء يدّعون ادعاء كاذبا ان الفكر العلماني يلغي الدين وهذا هو فهمهم لفصل الدين عن الدولة ولم يدر بخلدهم ان الدولة ليست سوى نشاط انساني لترتيب هيكل نظام سياسي سليم راقٍ بعيدا عن الدين الذي لانريده ان ينغمس في معمعان السياسة ومن اجل حفظه في القلوب والمشاعر وتكون علاقتك مع الخالق قريبة جدا إذ لا دخل للعلمانية في شأنك العقائدي بينك وبين الله، فلو تداخلَ الدين بشكل الدولة سنعود حتما الى مايشبه ما كان يجري في القرون الوسطى في اوروبا وكذا في نمط الخلافة السائد بعد وفاة الرسول الكريم حيث الخلط مابين الديني والسياسي مما نتج عنه من كوارث بليغة مازلنا نعاني منها حتى الوقت الحاضر.

وقد تبيّن لمعظم الشرائح الاجتماعية بكل مستوياتها بانّ العلمانية أحرص على الدين من زعمائه ومدّعيه وأوصيائه فهؤلاء يشوهونه بسلوكهم واستغلالهم اياه لتحقيق منافعهم الخاصة ويرتقون على سلالمه طلبا للجاه والمال والحظوة والمكانة اللائقة بلا اية مواهب او امكانيات فردية او ابتكارات سوى ممارسة التضليل والخديعة للملأ المتعب الجاهل وإبقاء العقل هابطا منحطّا متقبّلا طروحاتهم الطوباوية واحلامهم غير القابلة للتحقيق الاّ في اذهان مريديهم ذوي الآفاق الضيقة دون ان يرفعوا بمستواهم حتى يصبحوا زمنا بعد اخر مجرد غوغاء او دهماء رعاع مطاعين كالبهائم يسيرون وراء راعٍ جاهل فمرة يسيّرهم الى حروب كارثية باسم الدين او يدسّ في نفوسهم وعقولهم ما يسمى بمُثُل الشهادة في سبيل العقيدة او المذهب ليعيش رجل الدين بمنأى عن غبار ونصال الحروب موجها هذا وذاك لإيقاد مزيد من اللحم الانساني كي تستعر الحرب طالما وقودها الناس السذّج.

ففي النهج العلماني يراد للدين ان يقوّم اخلاق الفرد وتشذيبها وتأهيل الانسان المهذب والمحافظة على عقيدته واحترام علاقته العمودية مع الله ولا دخل للدولة في شأنه العقائدي الشخصي، اما العلاقة الافقية التوسعية لافكار دينية او عرقية في مجتمع مدني علماني فهي لاتعدو كونها نزعات طائفية او رؤى شوفينية عدوانية لبقية فئات المجتمع ويجب ردعها وايقافها عند حدها فلا تبشير ولا هداية الى سواء السبيل ولا مغريات لأوهام دينية وشهوات ما بعد الحياة يمكن الترويج لها في المجتمع القائم على المدنية والعلمانية ؛ فاعبد ربك ومارس طقوسك حرا دون ان تدسّ انفك في قناعات الاخرين العقائدية مادام المجتمع والدولة أتاحت لك حرية العقيدة ومن هذا المنطلق ترسخت الدعوة المدنية الى فصل الدين عن الدولة كي يتاح للدولة ان تبني الانسان مجددا بالشكل الارقى وتضمن رفاهيته وارتقاءه وترسيخ مواطنته التي تتساوى تماما مع اخيه المواطن الاخر في الحقوق والواجبات ولا مفاضلة او محاباة او معاداة بين احدهما الاخر بسبب الدين او اللون او الجنس او العرق الاّ بما يقدّم من انجاز عقلي وابداع فكري يسهم في تطوير وتنمية بلاده.

هذا التمايز موجود بكل وضوح في البلدان غير العلمانية فرجل الدين يوضع في الترتيب بالصفوف الاولى مع رجل القبيلة وشيخها الجليل ولهما من الامتيازات مايفوق صنعة مخترع او مكتشف او مبدع او استاذ جامعي ومُرَبٍّ قدير يصنع اجيالا من الشباب الناهض الباني ومايتجاوز العلماء والفنانين والمبدعين ورجل السياسة يمتلك من النفوذ والسلطان مايخيف المواطن البسيط وكذا الحال في شخوص رجال القوات المسلحة والدرك الذين يمتلكون السطوة ويثيرون الرعب في نفوس الناس البسطاء.

هنا لابد من سحب البساط للاطاحة برؤوس منتفعي الدين والقبيلة ومن يسايرهم من متزعمي الميليشيات من خلال فصل الدين عن السياسة وفصل القانون المدني عن الاعراف العشائرية للقضاء عليها تماما فلا يصلح ولايمتد القانون المدني ولا يحقق اية سطوة مادام رجل القبيلة ورجال الدين يمتلكون قانونا واعرافا خاصة بهم ؛ وليس تقليص نفوذهم انما محوه تماما وقبر سننهم وطمر قوانينهم الى الابد لكي يتاح للدولة المدنية ان تتسع من خلال تقليص نفوذ هؤلاء الى ابعد حدّ وان اقتضى الامر سحب البساط من تحت اقدامهم لاجل الاطاحة بهم فهم عثرة العثرات والمعوّق الاول والاخير للبناء المدني السليم

اما كيف يتم هذا التضييق عليهم في بلداننا المبتلية بهم وبجذورهم الراسخة في عقول الجهالة والرعية الطيعة المغلوب على أمرها فلابد هنا من تأسيس قوى وطنية علمانية متسلحة عقلا ويدا معا مع اجراء وتنظيم قانون وضعي اساسه النظم العلمانية في المساواة بين الناس وخضوع الجميع تحت طائلة هذا القانون دون اي محاباة او معاداة لاصناف الناس وشن

حملات جادة للقضاء تماما على الجهل والتجهيل من خلال البدء في ايقاظ الوعي الجمعي ومسخ الامية نهائيا وبث اليقظة العقلية لكل شرائح المجتمع والتركيز على محو كل مايعيق نماء تشكيل نظام جديد راق هادف الى الخروج من دهاليز الطائفية ومنعرجات العرقية ونعنعات الإثنيات وتثبيت مبدأ المواطنة الحقة اساسا راسخا في المجتمع حيث لامفاضلة بين هذا الجنس او ذاك ولا تمايز سواء في لون العقيدة او البشرة او المنابت العرقية الخرافية.

فالعلمانية إيمان وليست إلحادا، إيمان بوحدة شعب بلا فوارق طبقية او دينية او عرقية ؛ تراها تؤمن بحق كل فرد من إداء طقوسه التي يقتنع بها وتريد من الدين ان يشذب اخلاق الفرد وتحرره من الكراهية والنرجسية في المعتقد وتسعى ان يسالم الانسان اخاه المواطن وان اختلف معه في المعتقد ليكونا على مسافة واحدة في احترام القوانين والافكار سواء كانت سماوية او وضعية.

والعلمانية ليست انفلاتا اخلاقيا او تحررا مطلقا مؤداها الى الفوضى والانسان العلماني يحترم الاعراف والتقاليد والموروث الشعبي مثلما يحترم القوانين المرعية في شأن الثواب والعقاب والمواد الدستورية والقانون المدني ويتقيد بما ترسمه الدولة العلمانية لترتيب حياة المجتمع وتنظيمها التنظيم اللائق بها على العكس من المتدينين النرجسيين وذوي المعتقدات الداعية الى التبشير ونشر قناعاتهم بالإرغام وبالأطماع او التهديد الذين يخرقون القوانين ويؤلبون على العنف ويرغمون الاخرين على اتباع مايريدون دون اية مراعاة للقوانين المدنية.

لأجزم واقولها علنا وهذه قناعتي التي لا احيد عنها ان العلمانية لاتريد ابدا إلغاء الدين وهي أحرص على الدين والمعتقد من مشايخه وخطبائه وتهدف الى سلامته وبقائه نقيا في القلوب والنفوس على العكس ممن يدعون انهم من رعاته وممثليه الذين يجعلون الدين عنيفا ودمويا من خلال اختلاق العداوات والكراهيات وتفعيل الحروب ويجرجرونه حسب اهوائهم ومنافعهم ويفصّلونه تبعا للباسهم ووفقا لمطامعهم بينما مريدو العلمانية يظهرونه مسالما مقوّما للاخلاق هادفا الى التعايش السلمي مع كل الاطراف المختلفة ضمن الوطن الواحد ويرعونه الرعاية الكبيرة، بينما مدّعوه وماسكو زمامه يقودونه الى المهالك والحروب الرعناء ومزالق الكراهة والبغضاء وابتزاز الناس ماليا وعاطفيا وأرخصوا قيمه ومبادئه المثلى حتى صار تجارة وسلعة ينتفع بها لخاصّته وضررا بالغاً لعامّته.

حقا لقد طال مكوث التخلف وأرهقَـنا ثقاله فينا ولم نعد نحتمل اكثر ولا بد من التحرّك السريع من اجل التغيير لتثبيت الخطوة الاولى برسوخ تام وعزيمة لاتلين.

نحن بحاجة الان وقبل كل شيء الى أنظمة حكم مدنية متحضرة ومراكب ترسو بنا الى شواطئ العلمانية الآمنة ؛ فلنجرؤ برباطة جأش وقوة الى سحب البساط للإيقاع بكل من يعيق هذا التوجه سواء من رجال الدين او زعماء القبائل والأغوات المتنفذين وكل من يعرقل هذا المسعى والاّ فلا منجاة لنا من طوفان الاثنيات وفيضان الكراهيات واتساع العنف وبحيرات الدم وامتدادات الخراب ودعوات التجزئة على اسس عقائدية وعرقية بالية فقد خسرنا الكثير ولم يبق الاّ النزر اليسير، فلنعملْ على لمّ شتاتهِ وإنقاذه.

جواد غلوم

[email protected]