الاستنكار الذي حصل على أقوال رئيس الوقف الشيعي في العراق بشأن آيات الجهاد في القرآن الكريم والاسلام ضد الكفار المشركين وكفار أهل الكتاب من النصارى واليهود، وبالرغم من كون الكلام عائد الى سنوات السابقة لكن المطالبة باقالة المسؤول وابداء الرفض القاطع لهذا التأويل حول فكرة الجهاد المتبناة من قبل المتشددين والمتطرفين والحركات والمنظمات الاسلامية الارهابية كانتا من حسنات ردود الافعال.

وبالرغم ان شيعة العراق (ولا اقصد شيعة ايران) يلاحظ عليهم المرونة وعدم التشدد في التعامل مع الاقوام والمذاهب الدينية الاخرى من أهل ومن غير أهل الكتاب، ولكن اطلاق هذا التأويل والتفسير من مسؤول ورجل ديني شيعي يحسب من باب الاستغراب، وذلك لأن احداث منطقة الشرق الاوسط في العقدين الاخيرين أثبتت ان من تمسك واستند الى التفسيرات المتطرفة لآيات الجهاد والقتال والنفير هم الحركات والمنظمات الارهابية المحسوبة على المذهب السني، ولم يسجل ظهور حركة ارهابية تكفيرية محسوبة على المذهب الشيعي استنادا الى الايات القرانية بشأن الجهاد، وما حصل من مد شيعي في المنطقة ورائه أجندات ايرانية من باب كسب مصالح ونفوذ سياسية وهي بعيدة كل البعد عن مفهوم الدعوة والارشاد، وشيعة العراق براء منها.

والمعروف ان ايات الجهاد ذكرت في سور عديدة من القران الكريم وهي بحدود (127) آية، وكذلك ايات القتال وهي بحدود (167) آية، وآيات النفير وهي بحدود (6) آيات، والمشكلة الجوهرية التي وقع فيها الفكر الاسلامي والتفسيرات الكثيرة والمتنوعة للقران ومنذ أكثر من الف سنة هو منح تلك الايات خاصية العمل بها في كل زمن وفي كل مكان، وهذه تعتبر طامة كبرى في مسيرة الامة والشعوب الاسلامية لأنها تستند الى جانب لاعقلاني ولا منطقي في التفاعل مع تطور مراحل حياة البشرية، وفي التعامل مع تقدم الزمن الذي يحمل تغييرات جديدة في كل مجالات حياة الانسان على مدار السنوات والعقود والقرون، وآفة العصر لدى شعوب وبلدان واقاليم العالم الاسلامي اننا نتعامل بتخلف ورجعية ولاعقلانية مع ثمارات ونتاجات معارف وعلوم وتكنولوجيات الألفية الثالثة والتي سجلت تطورات عملاقة بنسبة 5000% بالمقارنة مع ما قبل خمسين سنة، فكيف بالمقارنة مع ما قبل مئة سنة او الف سنة!؟، وآفة حياتنا المعاصرة هي ان بعض العقول الدينية المتحجرة المحسوبة على الاسلام تتعامل مع آيات الجهاد على أساس ان زمننا ما زال هو زمن النبي محمد (ص) وزمن عصر الدعوة، وعلى الرغم من تأكيد مجموعة من الآيات على ان زمن الجهاد والقتال والنفير قد انتهى، ولكن هذا لا يعني وقف الدعوة للاسلام والسلام والمحبة والوئام بالموعظة الحسنة والمجادلة الطيبة وعلى نطاق الافراد وليس الجماعات، ومن هذه المجموعات آيات السلام وهي (7) آية، آيات السلم وهي (6) آية، وآيات الاصلاح (1) آية. 

ومن المحاسن العظيمة للاسلام وجود آية كريمة في القران الكريم تفتح باب الانسانية على مصراعيها على المسلمين كافة بجميع مذاهبهم وتدفع بهم الى التعايس السلمي والمدني مع جميع اقوام وشعوب وامم العالم وبجمع اديانهم ومذاهبهم وطوائفهم الدينية السماوية وغير السماوية، وهذه الآية الكريمة هي "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (البقرة: 208)، حيث نجد فيها تأكيدا وتشديدا على دعوة جميع المؤمنين برب العالمين من المسلمين ومن أهل الكتاب ومن عير أهل الكتاب للدخول في السلم كافة وعدم اتباع خطوات الشيطان المؤدية الى التقاتل والتحارب والتفرقة واراقة الدماء، ومن وراء متن وفلسفة هذه الآية نستلهم ان العنف الوارد في ايات الجهاد والقتال والنفير يقصد به فترة محددة في مرحلة الدعوة بحضور النبي محمد (ص) وهي فترة ما قبل فتح مكة، والفهم العقلاني يستنتج ان تلك الايات لا يقصد العمل بها في المرحلة التي تلت عملية فتح مكة واعلان الدولة الاسلامية وما بعدها.

ومما يندى له جبين الانسانية ان بعض المراجع الاسلامية خاصة لدى المكون السني ولحد الان لم تكفر باهل الحركات والمنظمات الارهابية مثل القاعدة وتنظيم داعش الارهابي والحركات المتطرفة الاخرى، ومن هذا الموقف يقرأ ان الاسباب الموجبة والمصادر النصية التي تتحجج بها الحركات الااسلامية الارهابية يبدو انها تؤخذ بصحتها من قبل تلك المراجع ولهذا التزمت جانب الصمت.

ولهذا بات على المراجع الاسلامية التحرر الفكري واجبا، واجراء مراجعات تاريخية وانسانية ضرورة ملحة لاعادة النظر فيما تخص ايات الجهاد والقتال لتخليص القران الكريم والاسلام والمسلمين من الشائكة العنفية التي تلصق بهم وتحوم حولهم من قرون، والحاجة الى البرهان على برائتهم من تهم العنف والقتل والتشدد بالعقل والمنطق، وخلاصهم من تهمة الارهاب التي لحقت بهم نتيجة الاعمال والافعال الاجرامية للحركات والمنظمات الارهابية الاسلامية، ومن أجل هذه الغاية النبيلة لابد من اتباع خارطة الطريق التالية:
أولا: اجماع جميع المراجع الاسلامية لكل المذاهب على اقرار تاريخي وهو ضرورة الاتفاق على ان ايات الجهاد والقتال والنفير لا تخص فترة ما بعد فتح مكة بحكم الضرورات الانسانية ومباديء بناء الدولة المدينة التي تجمع تحت خيمتها كل الشعوب والاقوام والاديان والمذاهب المتنوعة السماوية وغير السماوية.

ثانيا: ابعاد جميع نماذج المذاهب الاسلامية من كل أشكال العنف والتطرف والتشديد واقرار ذلك باعلان او بيان عالمي من المراجع مؤكدا ان الاسلام دين السلام والمحبة والوئام وهو مسخر لخدمة البشرية، ومثبتا فيه جميع مباديء وقيم حقوق الانسان المستخلصة من كل الاديان والتجارب البشرية والمهذبة والمنظمة بعقول العلماء والحكماء والفلاسفة على مر ازمان تاريخ الفكر الانساني.

ثالثا: اقرار جميع المراجع الاسلامية بجميع مذاهبه على مبدأ فصل الدين عن الدولة وحصر وتحديد العلاقة الدينية للفرد بربه وبمذهبه بعيدا عن تدخل الدولة والمجتمع، وفك ارتباط الدولة بالدين الرسمي لان الاخيرة حالة دنيوية ترتبط بحياة الانسان والمجتمع في الدنيا ولا ترتبط بالاخرة.

رابعا: الغاء جميع التفسيرات المفسرة للقران الكريم من بداية ظهور أول تفسير الى اخر تفسير، والتي يقدر عددها بأكثر من خمسة الاف تفسير، لانها جهود فردية تتسم بالقصور الكامل وهي تخص زمانا ومكانا معينا يتعلق بالمفسر ولا يتعلق بالنصوص، وكذلك لان التفسيرات لا تستند الى رؤى شاملة مستندة الى احكام العقل والمنطق والواقع، وبدلا من ذلك نقترح تشكيل هيئة مؤسساتية من علماء العلوم والشريعة والفلسفة ومن كافة الاختصاصات العلمية والدينية واللغوية والادبية والاجتماعية والاقتصادية والطبية والنفسية وغيرها لكتابة تفسير مبين للقران الكريم بجهود جماعية وبرؤية علمية ومنطقية بعيدة عن الاجتهادات الفردية والمذهبية والطائفية والمتطرفة وبعيدة عن قراءات التراث الماضي، والضرورة التاريخية تستدعي تبني هذه الفكرة لاهمية بيان ورسم الاطار الصحيح للفكر الاسلامي على أساس رؤية انسانية وعلمية وواقعية.

خامسا: ضرورات تفكير المراجع الشيعية العراقية (وليست الايرانية) بتقديم نموذج مذهبي يتصف بالعمومية والعقلانية والانسانية الشاملة لاعتدال المذهب الجعفري، لكي يقبل به من قبل المذاهب الاخرى بمرونة وواقعية بعيدا عن التطرف والطائفية، ومحاولة تبني تلك المراجع لمبدأ فصل الدين عن الدولة كحل جذري لازالة الخلافات المذهبية وارساء نموذج انساني كبير على الحياة العامة العراقية.

سادسا: ارتكاز جميع المراجع الى ميدأ تحقيق العدالة الانسانية والاجتماعية في كافة المجتمعات الاسلامية وفق للمواثيق واللوائح الخاصة بحقوق الانسان الصادرة من الامم المتحدة لابعاد العنف والتشدد من تلك البيئات، واعتبار تلك المواثيق قواعد تنظيمية بتفاصبل نصية تؤمن العدالة المقصودة لكونها مستخلصة من تجارب عموم البشرية وهي ثمرة عقول حكيمة تبنت خدمة الانسانية هدفا ساميا لها.

سابعا: اقرار المراجع بالزام جميع المكونات الحكومبة والمدنية في مجتمعات وشعوب العالم الاسلامي بتبني فكرة تنمية الانسان هدفا أساسيا ورئيسيا لها مع ضمان توفير كافة المستلزمات لها مع شمول كافة افراد المجتمع بها، وذلك لتأمين حياة حرة كريمة لكل انسان وذلك لضمان الحاضر والمستقبل بامال واقعية.

باختصار هذه اهم المرتكزات الاساسية التي يمكن الاستناد اليها للسيطرة على الاثار السلبية والكارثية التي جلبتها ايات الجهاد والقتال والنفير في الفران الكريم على المسلمين كافة، والتي استغلت من قبل طوائف وحركات ومنظمات ارهابية لالحاق اضرار كبيرة بالاسلام وبالمجتمعات الانسانية في أغلب انحاء العالم، ولا شك ان سمات الجرأة والشجاعة والمسؤولية التاريخية والمشاعر الانسانية والحرص على الاسلام المتسم بالسلام والبعيد عن العنف والقتل والدم، خواص مطلوبة للاعضاء وللممثلين عن المراجع الاسلامية بجميع مذاهبها ولكل من يتبنى الافكار الواردة في هذا المقال المتواضع، وبالرغم من الاقرار بصعوية بعض الافكار بسبب العقلية المتخلفة التي تتحكم بالمجتمعات الاسلامية فان الصبر والتحمل مطلوبان لاداء هذه الرسالة الانسانية لارساء طريقها ومسيرتها وابعادها عن العنف والارهاب، ولهذا نأمل الخير في تقبل ما ورد اعلاه وهي في كل الاحوال ان أصبنا او اخطأنا فهي رؤية فكرية من قلمنا المتواضع نابعة من الايمان بالرأي والتعبير الحر الذي ضمنه لنا الدستور العراقي الدائم، والله من وراء القصد.