بلدة "عقارب الصافية" بريف حماه السورية، سكانها مسلمون اسماعيليون، بينما كانوا داخل منازلهم غارقون في النوم، فجر الخميس 18 ايار الجاري، باغتتهم عصابات تنظيم داعش، بطريقة وحشية بربرية ذبحت وقتلت العشرات وجرحت المئات منهم، بينهم أطفال ونساء. هذه المذبحة المروعة،وهي جريمة ضد الانسانية، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في السجل الاجرامي لـ (تنظيم الدولة الاسلامية) المعروف اختصاراً بـ "داعش"، يتزعمه (ابو بكر البغدادي) الذي اعلن "دولة الخلافة الاسلامية" في المناطق الخاضعة لسيطرته في كل من سوريا والعراق. فقد سبق لهذا التنظيم، الأكثر ارهاباً وتوحشاً بين التنظيمات الاسلامية حتى الآن، أن نفذ عمليات تطهير (ديني وعرقي) بحق المسيحيين واليزيديين وسبى نسائهم وبناتهم في المناطق التي اجتاحها في سوريا والعراق ومصر وليبيا. منذ أن ظهر (داعش) بداية عام 2014 والسجالات مستمرة حول نشأته واسباب ظهوره بهذه الوحشية وعن الجهات التي تقف خلفه والداعمة له. 

نتفق مع من يقول: "أن ظهور (داعش) في هذه المرحلة، يعود الى ظروف الحروب والأوضاع الاقتصادية والمجتمعية التي تعصف بالمنطقة وشعوبها". بيد أن نشأة (تنظيم الدولة) وغيره من التنظيمات الاسلامية المتشددة، مرتبط بشكل اساسي بطبيعة الأنظمة السياسية ونهج الحكم وبمناهج التعليم والتربية، كذلك بالخطاب الديني الرسمي(الحكومي) والشعبي، في الدول العربية والإسلامية. قبل ايام انتشر، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تسجيلٌ مصور لرئيس الوقف الشيعي في العراق، (علاء الموسوي) يقول فيه: "لا بد من قتال النصارى حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية". هذا الخطاب التحريضي ضد المسيحيين، وتخيرهم بين اعتناق الاسلام والموت ودفع الجزية، ينسجم تماماً مع العقيدة الدينية والرؤى الفقهية لتنظيم الدولة الاسلامية "داعش". عام 1924 ألغيت "الخلافة الاسلامية" رسميا من قبل (كمال أتاتورك)، مؤسس الدولة التركية الحديثة. لكن حنين المسلمين الى "حكم الخلافة" لم يمت، بقي مشروعاً قائماً، يتطلع اليه (الإسلام السياسي) بمختلف تياراته وتوجهاته الفكرية وهوياته العرقية، ومن خلفه المرجعيات الاسلامية، وبشكل خاص السنية منها، مثل "مشيخة الأزهر". فقهاء الدين الاسلامي يرون في "إلغاء الخلافة نفياً لصفة الإسلام عن المجتمعات والشعوب الإسلامية. فمن واجب المسلمين السعي إلى بعث الخلافة الإسلامية". يفترض بـ"النظام التربوي" في أي دولة، أن يقوي (الانتماء الوطني) لدى الجماعات والكيانات البشرية التي تتعايش في كنفها، ويرسخ مفاهيم وقيم التضامن الاجتماعي والتسامح الديني والعيش المشترك بين هذه الجماعات، ويساعد على إرساء اسس (دولة المواطنة). هذه الوظيفة الأساسية، تكاد تغيب عن مناهج التعليم والتربية والتنشئة الاجتماعية، في الدول العربية والاسلامية. نظامها التربوي والتثقيفي، يتمحور بشكل اساسي حول (تقوية انتماء الانسان المسلم لهويته الإسلامية) على حساب هويته الوطنية. في محاولة من الحكومات، إرضاء الاسلاميين وتجنيب نفسها اتّهامات الشارع الاسلامي لها "بأنها تسعى إلى تقويض الثقافة الاسلامية وتهميش الإسلام" و لمواجهة مد التيارات (اليسارية والعلمانية) الطامحة لاستلام الحكم، بالغت(الحكومات) في تعزيز وتكثيف (التعليم الديني ) في مدارسها وفي اطلاق حرية مشايخ ورجال الدين في اطلاق خطابهم الإسلامي المتشدد، الذي يقوم على "تكفير" الآخر و الترويج لحزبهم الشعبي الخفي (حزب الجامع) حتى بات هذا الحزب، من أكثر الاحزاب شعبية و انتشارا في المجتمعات الاسلامية، رغم أنه حزب غير معلن وغير مرخص ولا من هيكلية تنظيمية له ومن غير قيادة محددة.

حقيقة، إننا بموجهة (مناهج تربوية) تمجد وتعظم الغزوات والحروب الاسلامية، محشوة بالكثير من المقولات والخطابات المحرضة على القتل والعنف الديني، وبتلك التي تطعن بمعتقدات غير المسلمين. من هذه المقولات "ومَن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.. الاسلام دين الحق وكل دين غير الاسلام باطل.. العالم ينقسم إلى مؤمنين وهم المسلمين، وكفار هم غير المسلمين". حقن عقول طلبة المدارس بمثل هذه الخطابات،المشبعة بالكراهية الدينية، تحفزهم على الانخراط في صفوف التنظيمات والجماعات الاسلامية الجهادية السلفية المتشددة. وإلا، كيف يمكن لـ (تنظيم الدولة الاسلامية- داعش) استقطاب كل هذه الأعداد الكبيرة من المسلمين من جنسيات مختلفة ومن مختلف الشرائح، وزجهم في أعماله القتالية الارهابية، وإيجاد لنفسه بيئات اجتماعية شعبية حاضنة في مختلف المناطق والمجتمعات العربية والاسلامية. في ضوء كل ما تقدم، يتضح جلياً أن (داعش) لم يأت من فراغ. لم يهبط من كوكب آخر. أنه نتاج بيئة (ثقافية،فكرية،اجتماعية) اسلامية. بسلوكه المتوحش وبعقيدته التكفيرية، ليس حالة شاذة وغريبة عن التاريخ العربي والاسلامي.

باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات 
[email protected]