بات معروفاً كألفباء الإقتصاد السياسي أن الإمبريالية إنما هي معالجة يقتضيها النظام الرأسمالي لتفريج أزمته الدورية الناجمة أصلاً عن فائض الإنتاج المتحقق في المتروبول المركز الرأسمالي، تلك الأزمة الناجمة عن الفرق بين المجموع الكلي للأجور والمجموع الكلي لقيمة الإنتاج وهو الفرق المتمثل بفائض القيمة.
المأثرة الإنسانية الكبرى التي حققها البلاشفة الروس هي أنهم فتحوا الطريق الآمن لقوى التحرر في العالم لتفك روابط بلدانها بمراكز الرأسمالية وتستقل فلا تعود تستقبل فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة وخروج الإتحاد السوفياتي منها كأقوى قوة في الأرض نهضت قوى التحرر في البلدان المستعمرة والتابعة وحققت جميعها الاستقلال لبلدانها بداية من 1946 وحتى 1972 حين أعلنت الأمم المتحدة في بيان رسمي انتهاء الاستعمار في العالم كله. 
كيف لا يقرأ المؤرخون والمحللون الاستراتيجيون مثل هذا الانعطاف في التاريخ!؟ لا مشاحة إذاً في التشكيك إن لم يكن بنزاهة هؤلاء المؤرخين والمحللين الاستراتيجيين فبعلمهم بالتالي. أن لا يؤرخ هؤلاء القوم انهيار الامبريالية فذلك لا يعني أن التاريخ بقي على مساره القديم وأن الدول المستقلة ظلت تستقبل فائض الانتاج المتحقق في المراكز فقد أضحى للدول المستقلة ميزان تجاري تحرص على توازنه ولو بمقدار وهو ما يرتب عليها أن تمتنع عن القبول بشراء فائض الإنتاج في المراكز مما يتسبب بالإنهيار الحتمي للنظام الرأسمالي.
ما يخفف من سخطنا تجاه مثل هؤلاء المؤرخين والمحللين الاستراتيجيين هو أن عامة الشيوعيين وأدعياء الماركسية ينكرون انهيار النظام الرأسمالي بحجة قمينة بالسخرية تقول طالما أن النظام الاشتراكي لم يعقب انهيار النظام الرأسمالي فذلك دلالة قاطعة على عدم انهيار النظام الرأسمالي – مثل هذه الحجج السفيهة لا تستحق منا أدنى اعتبار.

في العام 1971 سجل التاريخ أن الولايات المتحدة فقدت غطاءها النقدي. صحيح أن رئيسها الأحمق لندون جونسون أنفق كل ما في خزائن الدولة من أموال على حربه على الشعب الفيتنامي، لكنه صحيح بالمقابل أن خزائنه لم تعد تستقبل أموالاً بديلة أي أن الإتنتاج في أميركا لم يعد ينتج أموالاً جديدة كما هو النظام الرأسمالي وهو ما يعني أن نظام الانتاج في أميركا لم يعد رأسمالياً. ذلك هو التفسير الوحيد لاضطرار ريتشارد نكسون للخروج من معاهدة "بريتون وودز" وهي المعاهدة التي كانت الولايات المتحدة نفسها قد دعت إلى عقدها في العام 1944 وتشترط غطاء ذهبياً للعملة الوطنية. ولذلك عانى الدولار من هبوط حاد في أسواق الصرف مما حدا بإدارة نكسون لإعلان خفض قيمة الدولار (Devaluation) في العام 1972، لكن ذلك لم يعالج الأزمة مما اضطر الإدارة الأميركية أن تعلن خفض قيمة الدولار مرتين في العام 73. إذاك أعلن العديد من علماء الإقتصاد عن مؤشرات قوية لانهيار النظام الرأسمالي وهو ما دفع بالرئيس نكسون في مايو أيار 1974 إلى استبدال وزير المالية جورج شولتس الذي يحمل درجة الدكتوراه في الإقتصاد بالسيد وليم سيمون المدافع الشرس عن النظام الرأسمالي. كان أول إجراء اتخذه هذا المدافع عن النظام الرأسمالي هو دعوة وزراء المال في الدول الرأسمالية الكبرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان إلى اجتماع عقد في مكتبة وزارة الخارجية في نوفمبر 1974 وبدأ الاجتماع بوليم سيمون يطرح سؤالاً: إذا انهار النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة فماذا سيكون أثر ذلك عليكم!؟ فكان جواب جميعهم هو الانهيار، بالرغم من أن وزيري بريطانيا وألمانيا كانا إشتراكيين. اتفق الوزراء الخمسة على قرارات سيعلنها رؤساء الدول الخمسة في مؤتمر قمة لهم نظراً لأهميتها التاريخية. في نوفمبر 1975 أجتمع الرؤساء الخمسة في أول اجتماع ل (G 5) في قلعة رامبوييه بباريس وأعلنوا ما بات يعرف بإعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) وهو الإعلان الذي رسم تاريخ العالم حتى اليوم. ولذلك فإن أي سياسي أو اقتصادي لا ينطلق من هذا الإعلان لبناء خططه ونظرياته فلن يكون إلا في التيه.
خلاصة هذا الإعلان الهام تتمثل في ثلاثة أقانيم.. 
الأقنوم الأول وهو إغراق الدول المستقلة حديثا بالأموال، إن لم يكن بالمساعدات فبالقروض السهلة، وذلك من أجل عودة هذه البلدان لاستيراد فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية وبذلك تعود عجلة الإنتاج الرأسمالي إلى الدوران. خلال خمس سنوات فقط تم غمر الدول المستقلة حديثاً بثلاث ترليونات من الدولارات.
الأقنوم الثاني وهو الإنفتاح التام على دول المعسكر الاشتراكي عسى وعل هذه الدول تمتص شيئاً من فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية خاصة وأن قائد المعسكر الاشتراكي ليونيد بريجينيف كان قبل أسابيع قليلة قد استعطف قادة الدول الإمبريالية ليلاقوه في منتصف الطريق فلا يخسر كلاهما، المعسكر الاشتراكي ومعسكر الإمبريالية - وهنا قائد الثورة الاشتراكية العالمية بديل لينين وستالين يبدي حرصاً على معسكر الإمبريالية!!
أما الأقنوم الثالث وهو الأهم وصمام الأمان المفترض لسطوة الدول الرأسمالية الخمسة فيتمثل بضمان القيمة التبادلية لعملاتهم وذلك ليس بتوفير غطاء لها كما يقتضي قانون النقد الدولي بل عن طريق المضاربة في الأسوق فحالما تميل إحدى عملاتهم الخمسة إلى الهبوط تسارع الدول الأربعة الأخرى بشراء معظم المعروض منها في السوق، وهذا لا يؤمن القيمة الحقيقية للعملة بل هو عمل من أعمال الخداع.

القروض السهلة للدول المستقلة حديثاً أنفقت في استيراد البضائع الاستهلاكية فعملت على تعطيل التنمية الحقيقية في الدول المدينة وهو ما انعكس في رفاه مصطنع لا تستطيع اقتصادات هذه الدول توفيره ففشلت في التنمية وبات واجبها الذي لا فكاك منه هو البحث عن أية قروض جديدة بغض النظر عن شروطها دون أن تجد من يقرضها وانعكس الحال فباتت الدول الرأسمالية هي من يستقرض ولا يقرض.
أما الإنفتاح التجاري على الدول الاشتراكية فلم يتقرر هذا إلا بعد أن تنكرت هذه الدول للنظام الاشتراكي وبدأت اقتصاداتها بالتراجع وباتت هي أيضاً تبحث عن قروض توفر بها سبل عيش شعوبها المفقودة. ويذكر في هذا السياق أن وزيرة سوفياتية في عهد غورباتشوف سافرت إلى بريطانيا لتأخذ قرضاً بمقدار 60 مليون جنيه استرليني تشتري بكامل المبلغ من بريطانيا جوارب نسائية وكان ذلك من أجل أن يعيد غورباتشوف للمرأة أنوثتها وهو أحد شروط إعادة البناء (Perestroika). إنهار الاتحاد السوفياتي وهو يكابد قروضاً بلغت 60 مليار دولار.

سرعان ما وصل الأقنومان الأول والثاني لإعلان رامبوييه إلى فشل ذريع وتجاوز التضخم النقدي في عهد النيوليبرمان الغبي ريغان في أميركا والنيوليبروومان الفاشية ثاتشر في بريطانيا نسبة 20ً% بالرغم من إلضغط الشديد على قطاع الخدمات حتى وصل دولار 1970 لأن يساوي أكثر من 42دولاراً من دولارات 2012 وهو ما يؤكد أن تعهد دول إعلان رامبويية بكفالة القيمة التبادلية لعملاتهم لا تعني شيئاً ولا تساوي سنتيماً واحداً – مبادلة العملة بالعملة شيء ومبادلة العملة بالبضائع شيء آخر - حيث الأموال التي كانت هذه الدول تمتلكها في العام 1975 فقدت أكثر من 90% من قيمتها ولم تحافظ على سطوة الدول الخمسة (G 5) بل انتهت الدولة الأعظم بينها وهي الولايات المتحدة لتمسي ليست أكثر من مستعمرة صينية يكدح الشعب الأمريكي ليله ونهاره كي يدفع فوائد ديونه للصين وغير الصين تلك الفوائد التي تناهز الترليون دولاراً. مصر تجوع لأنها مدينة ب 67 مليار دولار فوائدها السنوية تصل إلى 3 مليار دولار، لكن الولايات المتحدة وشعبها يعد ثلاثة أمثال شعب مصر مدينة بحوالي 300 ضعف ديون مصر وعليها أن تدفع فوائد بما يناهز الترليون دولار. ولذلك طالما حذرنا من كارثة كونية ستنزل بالعالم كل العالم جراء ديون الولايات المتحدة الأميركية المتزايدة على الدوام الأمر الذي سيصل بها قريباً إلى إعلان إفلاسها وعدم قدرتها على خدمة ديونها وهو الإفلاس الكوني الذي لا براء منه ولا شفاء له خاصة وأن الدولار بناءً على مخططات الدول الرأسمالية الأغنى (G 5) في إعلان رامبوييه حل محل البضاعة في تنسيق الجيوسياسة في العالم الذي يمسكه الدولار بقيمته الإفتراضية بهيكليته الدولية الحالية. إنهيار الدولار يعني انهيار هيكلية العالم الحالية.

(يتبع)