لئن برر المؤرخون تقصيرهم الفاضح في تأريخ الوقائع الهامة جداً في مسار التاريخ في الإتحاد السوفياتي بشكل خاص بحجة العمل السري الذي اعتاد عليه الحزب الشيوعي والإعلام الموجه فمثل هذه الحجة تنتفي في العالم الرأسمالي حيث الطبقة الرأسمالية لا تتوانى عن إعلان خططها في تطوير نظامها الرأسمالي كي يكون أشد ضراوة وآمكن سيطرة على المجتمع وأكثر جلباً للأرباح الوفيرة السهلة .

معلم تاريخي هو الأبرز في التاريخ الحديث حيث ينهي نظاماً اجتماعيا ليحل محله فوضى اجتماعية عارمة دون أن يتواجد له ذكر في التاريخ إلإ في كتب نادرة متخصصة ألا وهو خروج الولايات المتحدة من معاهدة بريتون وودز (Brittonwoods) وهي المعاهدة التي كانت الولايات المتحدة نفسها قد دعت إلى عقدها في العام 1944 قبل نهاية الحرب العالمية الثانية والتي اشترطت على الدولة العضو في المعاهدة أن توفر غطاء ذهبيا يصل إلى 20% من قيمة كتلتها النقدية . كان الهدف الرئيسي للمعاهدة هو الحؤول دون أن يظهر هتلر آخر يشعل الحروب وينفق عليها بأموال زائفة لا غطاء لها . من سخرية الأقدار هي أن الولايات المتحدة وهي الداعي الرئيسي لعقد مثل تلك المعاهدة في العام 1944 هي أول من انسحب منها في العام 1971 كي تنفق على حربها في فيتنام دولارات غير مغطاة بالذهب . ما أنكرته على هتلر حللته لنفسها !!

كان التورط الأحمق للرئيس الأميركي لندون جونسون (Lyndon Johnson) طيلة فترة ولايته 1963 – 1969 في الحرب في فيتنام بهدف الانتصار السريع والحاسم في الحرب . ولتحقيق ذلك وظف كل ماكينة الحرب الأميركية في تلك الحرب الخاسرة . في آخر عام من ولاية جونسون كانت كل القوى العسكرية لأميركا تحارب في فيتنام 550000 عسكري وهو أكبر ما تستطيع الولايات المتحدة تجنيده مجهزين بكل أنواع الأسلحة من دبابات وطائرات وبوارج حربية واستخدام مختلف الأسلحة المحرمة دوليا كالأسلحة الكيماوية والجرثومية والنتيجة لم تكن هزيمة أميركا المذلة فقط بل كان ما هو أسوأ من ذلك بكثير ألا وهو إفلاس الدولة الأغنى في العالم، الولايات المتحدة الأميركية . في انتخابات 1969 فاز الجمهوريون بقيادة ريتشارد نكسون (Richard Nixon) تحت نداء وقف الحرب في فيتنام . لم ينجح نيكسون في ذلك لكن وتحت ضغط النفقات أضطرت الادارة الأميركية إلى سحب أكثر من نصف قواتها من فيتنام . ورث نيكسون عن لندون جونسون خزائن فارغة من المال فكان أن استعان بجورج شولتس (George Shultz) كوزير للخزانة وهو الأخصائي الرفيع في الإدارة المالية لكن شولتس لم يكن لديه حيلة في معالجة إفلاس دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية كان العنوان العريض لإفلاسها هو الخروج من معاهدة بريتون وودز في العام 1971.

لكن ما معنى خروج الولايات المتحدة من معاهدة بريتون وودز !؟

ليس لذلك الخروج أي معنىً آخر غير الإفلاس . لكن كيف لدولة رأسمالية عظمى أن تفلس !؟ لا يمكن أن يكون ذلك، فالرأسمالية تقوم أساساً على تحويل قوى العمل (Labour Power) المتجددة يومياً في العمال إلى بضائع تستبدل بنقود وبذهب . أي أن الدولة الرأسمالية تغتني يوميا وتزداد غنىً يوماً بعد يوم . التفسير الوحيد لإفلاس الولايات المتحدة هو فقط أنها لم تعد دولة رأسمالية ولم تعد تحول قوى العمل الأميركية إلى بضائع ونقودا جديدة .

نعم الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة رأسمالية وإلا لما اضطرت إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز . لم تعد دولة رأسمالية لسببين رئيسيين :

السبب الرئيسي الأول وهو أن جميع الدول المحيطية قد نجحت في تحقيق استقلالها وفك روابطها مع المركز الرأسمالي المتروبولخلال ثورة التحرر الوطني العالمية 1946 – 1972، وهو ما يعني أن هذه الدول المستقلة لم تعد مصرفاً لفائض الإنتاج في المركز المتروبول ، فائض الإنتاج الذي يمثل فائض القيمة محل ربح الرأسمالي فيعاف الرأسمالي تجارته الرأسمالية التي لا تجلب له ربحاً ويقلع عنها .

السبب الرئيسي الثاني وهو أن الإدارة الأميركية بعد الرئيس روزفلت وقد تأكد لها أن الثورة الشيوعية قد تعاظم خطرها بعد الحرب على النظام الرأسمالي في العالم أخذت تكرس كل مقدرات أميركا في مقاومة الشيوعية . فكان أن أغدقت الأموال على أوروبا الغربية بعد الحرب مباشرة وقد مالت شعوبها إلى النظام السوفياتي الذي برهن على أنه أقوى الأنظمة بوجه هتلر فوصلت المساعدات بموجب مشروع مارشال إلى دول أوروبا الغربية إلى 12,5 مليار دولار وهو ما يعادل 500 مليار دولاراً حالياً . وثبتبالتجربة للإدارة الأميركية أن مقاومة الشيوعية لا تنجح إلا ببناء النظام الرأسمالي حيث يتماثل الخطر الشيوعي وهو ما فعلته في اليابان وفي ألمانيا الغربية . وقد امتد ذلك في النمور الأسيوية التي كانت كوريدورات للثورة الشيوعية كما امتد أخيراً إلى الصين بعد زيارة نكسون في العام 1972 . وهكذا باتت أميركاتستورد بضائعها من الخارج، من شرق آسيا بصورة رئيسية، وعمال أميركا لا يعملون في الإنتاج الرأسمالي وهو إنتاج البضائع تحديداً . لم تعد قوى العمل في أميركا تتحول إلى بضائع تم نقود وذهب وراحت تلك القوى بدل ذلك تنصرف في إنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها ولا تتحول إلى نقود ووصل إنتاج الخدمات حتى في الثمانينيات من القرن الماضي إلى 80% من الإقتصاد الأميركي. ولذلك وجدت أميركا نفسها مفلسة لا تستطيع أن توفر الذهب المطلوب لغطاء عملتها وهو ما أرغمها على الخروج من معاهدة بريتون وودز وانسحب ذلك إلى مديونية فلكية تعاني منها أميركا اليوم تصل إلى 20 ترليون دولاراً . ليس ثمة ما يجعل لمرء السويّ يستشيط غضباً كمثل أولئك القوم غير الأسوياء الذين ما زالوا يصرون على أن الولايات المتحدة دولة رأسمالية إمبريالية رغم ديونها الفلكية، وكأن الرأسمالية لم تعد تنتج ذهباَ بمثلما خبرتها البشرية خلال القرون الثلاثة الأخيرة !!

ذلك الإعلان كان إعلاناً تاريخيا أنهى مرحلة تاريخية ليس في أميركا وحدها بل وفي العالم كله . إعلان بهذه الأهمية، إعلان نهاية النظام الرأسمالي في العالم لم يؤرخه المؤرخون وحجتهم بالقطع ستكون أن المحللين الاقتصاديين لم يحللوا مثل هذا التحليل فكيف يؤرخه المؤرخون والتحليل الاقتصادي ليس من مهنتهم . نعم التحليل الاقتصادي ليس من مهنتهم لكن انتقال التاريخ من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى هو من صلب اختصاصهم، فإن لم يكن تمرحل التاريخ من اختصاصهم فماذا تبقى لهم من اختصاص خاصة وأن إقتصاديين من ذوي الشأن في أميركا نفسها كانوا قد أشاروا إلى انهيار النظام الرأسمالي في بداية السبعينيات .

بعد إعلان الإدارة الأميركية عن خروجها من معاهدة بريتون وودز تدهور سعر صرف الدولار في أسواق الصرف الحرة في السنة التالية لدرجة خطيرة مما اضطر الادارة الأميركية لأن تعلن رسميا عن خفض قيمة الدولار (Devaluation) إلا أن ذلك لم يجد فتيلا فاستمر تدهور سعرالصرف دون توقف في العام 1973 حيث رأى جورج شولتس وزير الخزانة أن خفضاً آخر يمكن أن يوقف التدهور إلا أن ذلك لم يفلح فأعلن خفضا ثان في نفس العام دون أدنى نجاح في معالجة الموضوع الأمر الذي أفزع نيكسون خشية أن يكون الأمر هو فعلاً انهيار النظام الرأسمالي وليس علةً في الدولار وهو ماجعله يستبدل وزير الخزانة جورج شولتس وهو الإداري المالي الرفيع بوليم سيمون (William Simon) المعروف بتعصبه للنظام الرأسمالي والغيور عليه مثل نيكسون نفسه .

ماذا عسا تعصب وليم سيمون للنظام الرأسمالي وغيرته عليه يفعلان في هذا الشأن !؟ هل يستطيع أمهر الأطباء أن يعيد الحياة للميت !؟ حبذا لو أبقى نيكسون على جورج شولتس وزيراً للخزانة مستمراً في ضبط الإنفاق فلا تصاب الولايات المتحدة بسرطان التضخم النقدي كما حالها اليوم .

حالما تسلم وليم سيمون منصب وزير الخزانة في مايو أيار 1974 وجه دعوة إلى وزراء المالية في الدول الرأسمالية الأغنى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان لاجتماع يعقد في واشنطن عل لديهم ما يمكن أن يعدي الأزمة "العارضة" للنظام الرأسمالي. وقد تم الاجتماع في نوفمبر 1974 في مكتبة وزارة الخارجية الأميركية وكان ما سميّ بعدئذٍ بمحادثات المكتبة . وكان أن بدأ الحديث سيمون نفسة متسائلاً .. إذا انهار النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة فما عساه يكون مصير النظام الرأسمالي في بلدانكم !؟ فكان جواب الوزراء الأربعة هو الإنهيار بالطبع . 

أن يبدأ وزير الخزانة الأميركي وليم سيمون بمثل ذلك التساؤل الحدي المفاجئ حول انهيار النظام الرأسمالي ليس لأن هذا المتعصب للنظام الرأسمالي لديه بعض الظن من حقيقة انهيار النظام الرأسمالي إنما كان هدفه جر الوزراء الأربعة إلى المغامرة بكل التدابير المعقولة وغير المعقولة لمعالجة "بعض الخلل الطارئ" في النظام الرأسمالي . وهو ما كان فعلاً حيث قرر الوزراء الخمسة مسودة قرارات في غاية الأهمية سيجتمع رؤساء الدول الخمسة غلى مستوى القمة ليعلنوا تلك القرارات على الملأ والتي ستؤسس لنظام عالمي جديد يظنه بعض الحمقى أنه نظام رأسمالي مع أنه في الحقيقة النظام المعاكس تماماً للنظام الرأسمالي .

تلكم القرارات التي سيعلنها رؤساء الدول الخمسة فيما بات يعرف باسم (G 5) في السنة التالية 1975 هو ما سيكون موضوع مقالتنا اللاحقة .