كَسب الجنرال الثمانيني الرّهان، هو الذي خبِرَ لبنان وشهد عواصفه وحروبه وتحولاته ، وكانت له في ذلك مواقف ومواجهاتوخيارات، أظهر فيها عناداً وإصراراً فيما يراه دفاعاً عن إستقلال بلده ووحدة ترابه وتعدديّة تركيبته وسيادة الدولة فيه ، لعقود خلت خاض الرجل معاركه ولا يبدو وصوله إلى سدة رئاسة الجمهورية إلاّ فصلاً من فصول هذا المشوار " القتالي " المديد.

كان المشهد الداخلي اللبناني حتى قبل إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً منذ شهور حالك السواد ، يلامس الإنهيار التام على كل الصعد ، إهتزاز مخيف للثقة بالقطاعات المالية والمصرفية والأمنية التي كانت آخر القلاع الصامدة في ظل إهتراء بالغ ببنية السياسة والمجتمع والبيئة وتفلّت السلاح وإرتفاع معدلات الجريمة حيث لا يمر يوم إلاّ ويعلن عن جرائم فرديّة لم يعرفها لبنان في أحلك الظروف من قبل.

يقتضي الإعتراف بموجب الإنصاف أن التسوية الإستثنائيّة في توقيتها وأشخاصها والقوى الفاعلة فيها _ضمن الدائرة اللبنانية _ التي أطلق عجلتها رئيس الحكومة سعد الحريري من خلال دعمه ترشيح الجنرال عون لرئاسة الجمهوريّة شكّلت تحولاً حال دون إستحكام المسار الإنتحاري بالبلد، أطفأت تلك التسوية فتيل الأزمة الشاملة وأيقضت شعوراً بالأمل وإمكانيّة أن يتجه لبنان تصاعدياً نحو نموٍ وإستقرار طال إنتظارهما لشعب من شدة خيباته أَلِفَ الرحيل ، إلاّ أن الطريق طويل كما يبدو في كيانٍ أنهكته الإنقسامات الطائفيّة وتجاوزات بعض قواه جرّاء إنخراطها في لعبة المحاور الإقليمية ، وإصرارها على مغامرات خطيرة بخلفيات مذهبيّة كلّفت اللبنانيين ثمناً باهظاً ولا تزال.

العهد الجديد جاء بمن يحمل صفات (الرئيس القوي) وفق المُصطلح المُتداول في الأروقة السياسيّة ، صاحب تمثيل شعبي واسع قادر على صياغة علاقات متوازنة مع كافة القوى والأطراف، وتفاهمه المستجد مع سمير جعجع رئيس الهيئة التفيذية لحزب القوات اللبنانيّة قوبل بإرتياح وترحيب واسع على الساحة المسيحيّة وأعاد التوازن الوطني ووهج الحضور التاريخي لمكوّن تأسيسي في السياسة اللبنانيّة، هذه "القيامة " مرشّحة أيضاً لدور حضاريفي سياق نشر خطاب الحوار والتعايش والسلام في لبنان ومحيطه العربي والإسلامي والعالم . 

رغم هذه المناخات الإيجابيّة فمشاكل لبنان تبقى يوميّة عميقة ومعقّدة تمتد لعقود سابقة ليس من السّهل التغلّب عليها كما أن وضعها على سكّة الحل يحتاج لسنوات لاحقة، لا حلول فوريّة أو منظورة تُثبت إرادة حاسمة للحد أوّلاً من الفساد المُستشري في كل المرافق والمحمي بتكتل مافيات تمثّل أطراف السلطة نفسها،هذه السلطة التي إنبثق بعضها عن ميليشيات بدّلت من ملابسها يوماً وإنخرطت في أجهزة الدولة بعد إتفاق الطائف ولم تُفلح بتغيير ذهنيتها في الإستيلاء و"السطو " على مقدرات الدولة، هذه الدولة التي لا زالت تُهادن سلاح حزب الله الخارج عن سلطة الجيش والقوى الأمنيّة ويؤدي وظيفة مزدوجة داخل لبنان وخارجه واضعاً أمن اللبنانيين ومصالحهم ومستقبلهم في مهب الريح . 

عوائق كهذه إلى جانب الخراب القائم في البيئة الملوَّثة والصحة والتعليم والركود الإقتصادي وإهتزاز علاقة لبنان بجواره العربيوتراجع قدرته الحالية على جذب إستثمارات جديدة ووقوع البلد برمّته في حقل ألغام جراء إكتضاض مساحته الصغيرة بنصف مليون لاجيء فلسطيني ومليون ونصف نازح سوري يقاسمون اللبنانيين خدمات وبنى تحتيّة رديئة، تمثل بمجموعها تحديات وتراكمات تهدد نجاح أي حكم ما لم تحدث مفاجآت أو تسويات تغير في المعادلات. 

فإلى أي مدى يمكن للعهد أن ينجح في التعامل مع هذا الواقع الملغوم ؟ 

الأشهر الأولى واعدة قياساً بالتجارب السابقة، فإعتماد قانون إنتخاب جديد طال إنتظاره على أساس النسبيّة مع صوت تفضيلي يمكن إعتباره أكثر عدلاً وأوسع تمثيلاً وخطوة تغييريّة ملموسة،والسير بإتجاه إقرار الموازنة العامّة، وسلسلة الرتب والرواتب والمراسيم النفطية وخطة الكهرباء وفتح عقد إستثنائي لمجلس النواب لإقرار قوانين حيويّة كلها خطوات تصب في خدمة مصالح اللبنانيين، على أمل أن يواصل العهد تصدّيه لموانع الإستقرار الكبرى المُفرملة لمسيرة الإنماء والإعمار.

واضح أن الرئيس عون يتحرّك بشكل مختلف مُبدياً كل الحرص على إستعادة ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها ، العناوين الكبرى التي يطرحها في خطاباته ولقاءاته تبدو لافتة، تصميمه معروف سلفاً، ولعلّه الشخصيّة القادرة على قيادة التحوّل، لكن ما بين المشروع والرغبة والتصميم والقدرة الذاتيّة وبين تحويل كل ذلك إلى إنجازات ثمّة عقبات وغلالات رقيقة تسمى موازين قوى وتضارب مصالح وصراعات داخليّة ودول خارجيّة نافذه قد ترسم حدود اللعبة بما لا يوافق الرغبة الرئاسيّة وإرادة عموم اللبنانيين.

اللحظة الراهنة تدفع بإتجاه منح العهد ثقة " نسبيّة " مع صوت تفضيلي.

كاتب وصحافي لبناني 

[email protected]