بجانب البيروقراطية يسوق عتات المتمركسين الجمود العقائدي كسبب رئيسي أيضاً وراء إنهيار الاتحاد السوفياتي، وهم بهذا الادعاء يكشفون حقيقة كونهم متمركسين وليسوا ماركسيين . الماركسية ليست عقيدة ومن يحولها إلى عقيدة، بلْهَ عقيدةً جامدةً، فإنه يخرج تماماً من دائرة الماركسية ولا يعود ماركسياً بحال من الأحوال . فحال الجمود العقائدي منافٍ تماماً للحال الماركسي . الماركسية التي اكتشفها ماركس ونسبت إليه بالإسم هي بالضبط التساوق مع القانون العالم للحركة في الطبيعة الذي يتمثل في كل أشياء الكون، في الذرة كما في النجوم والكواكب كما في المجتمعات البشرية . كل أشياء الوجود تتهيأ أو تتشكل من اتحاد متضادين متصارعين دون انقطاع حفاظاً على تواجد الشيء بالشكل المحدد المعروف . يتعرف الإنسان على هذه العملية التي لا يدركها بأحاسيسه بالتعبير عنها ب "سنة التطور" .

بموجب القانون العام للحركة في الطبيعة تعذر على الحيوانات الشبيهة بالإنسان خلافاً لكل الحيوانات الأخرى الحفاظ على النوع من غير التغريب عن الذات وتمثل هذا التغريب في تناول الحيوان الإنسان أدوات من الطبيعة، من خارج جسمه، كالحجر والعصا تساعدة على جني غذائه وحماية نفسه من الإفتراس . رحلة التغريب الإنسانية تتمثل بالربط الديالكتيكي الوثيق بين الإنسان من طرف وأدوات الإنتاج من طرف آخر . وحدة التناقض هذه أبدية أبدية الإنسان ولا تنفك إلا بفناء البشرية، وهي الوحدة التي سماها ماركس "قوى الإنتاج" .

قوى الانتاج وهي من أشياء الكون أو الطبيعة تخضع بالطبع للقانون العام للحركة في الطبيعة وتتطور في كل لحظة حتى أنها ليست هي نفسها في اللحظة التالية . الصورة التي عكستها قوى الإنتاج في لحظة عابرة ليست هي نفس الصورة في اللحظة التالية، وبذلك اختلفت الفكرة التي انعكست عن كل منهما .

من كل ما تقدم يتحتم الخلوص إلى أن الجمود العقائدي ليس هو من مفردات الماركسية ولا حتى من علل الماركسيين . وللتمثيل على ذلك لا يجوز وصف الماركسيين سابقاً والمنادين اليوم بالحرب على الولايات المتحدة الإمبريالية لا يجوز وصفهم بالجمود العقائدى حيث أبسط قراءة لوسائل الإنتاج القائمة في الولايات المتحدة لا تسمح بوصفها بالرأسمالية فكيف بها إمبريالية !! مثل هؤلاء القوم لا يجوز وصفهم بالماركسيين .

ما تعلل به أشباه الماركسيين بالقول أن الجمود حكم فترة بريجينيف التي استمرت ثمانية عشر عاماً 1964 – 1982إنما هو محاولة سقيمة للبورجوازية الوضيعة للإختباء وراء أصبعها . البورجوازية الوضيعة ممثلة بجنرالات الجيش اختطفت السلطة من البروليتاريا حال رحيل ستالين وبعد أن لحق بالبروليتاريا السوفياتية خسائر فظيعة تعدت كل الحسابات في مواجهة العدوان الهتلري الوحشي، وشنت حرباً لا هوادة فيها ضد البروليتاريا، حرباً لن تنتهي بانتصار البورجوازية الوضيعة الحاسم على كل حال مهما ابتدعت من خطط وأكاذيب وذلك لأنها،وبحكم تقسيم العمل الإجتماعي، لا تنتج أية ثروة ولا تمتلك نظاماً للإنتاج يحمل المجتمع وقابلاً للحياة . ليس من نهاية لهذه الحرب التي لم تغب عن ذهن آباء الشيوعية، ماركس وإنجلز ولينين وستالين، قبل استعادة البروليتاريا الروسية لسلطتها المخطوفة ؛ والقول بأن روسيا أخذت تعود للنظام الرأسمالي قول يتسم بالغباء الشديد وينم عن جهل مطبق بطبيعة النظام الرأسمالي ونشوئه التاريخي . لو لم يقصر النظام الإقطاعي في توفير شروط الحياة المتنامية للشعوب الأوروبية لما انتقل العالم من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي . ثلاثة قرون انقضت تساوقت فيها عدة عوامل حتى تكاملت بنية النظام الرأسمالي . في القرن الخامس عشر بدأ النظام الإقطاعي بالانهيار وظهور المدن البورجوازية التي تعتمد على إنتاج الصناعات الحرفية . وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر تنامى في أوروبا مراكز تجارية كبرى مثل فلورنسا وفنيسيا في إيطاليا وانتشرت البواخر في بحار العالم تنقل البضائع فيما بات يدعى بالرأسمالية التجارية (Mercantilism) والتي كانت العامل الأساسيفي مراكمة الأموال وتوفير رؤوس الأموال بالتالي للتوظيف في الإنتاج الرأسمالي . في أواسط القرن الثامن عشر كانت الثورة الصناعية التي أوجدت أدوات الإنتاج الجديدة المناسبة لنظام الإنتاج الرأسمالي الكثيف . الأمر في روسيا لم يكن على هذا النحو على الإطلاق. مغامر مهووس هو بوريس يلتسن تقدم صفوف العسكر في تهديم أسس النظام الاشتراكي التي قاومت الهدم حتى التسعينيات، وطالب مدراء المؤسسات الانتاجية بالاستيلاء الشخصي على تلك المؤسسات ظناً منه وهو السكير العربيد أن ذلك سينقل روسيا إلى التظام الرأسمالي !! كل من يقول أن روسيا انتقلت إلى النظامالرأسمالي إنما هو ليس أكثر من تلميذ لهذا المهووس الصعلوك المسمى بوريس يلتسن ,

النظام الاشتراكي لم يقصر في تلبية اجتياجات الشعب حتى بعد أن تكبد الاتحاد السوفياتي خسائر فظيعة لم توازها أية خسائر في حروب العالم عبر التاريخ . نقرأ أرقام التنمية في الخطة الخماسية الخامسة التي ألغاها العسكر في العام 1953 لنوقن أن الإتحاد السوفياتي كانسيكون جنة الله على الأرض بنهاية الخطة 1956 . ما قصر هو الاشتراكية المتراجعة بقيادة العسكر فيما بعد العام 1953 وما تبقى من الحزب الشيوعي بقيادة غير شيوعية من طراز أندروبوف وغورباتشوف . حال روسيا اليوم وسائر الدول التي كانت في المنظومة الاشتراكية هو أسوأ يكثير مما كن زمن الاشتراكية المتراجعة غير أن الأوليجاركية من الطبقة البورجوازية الوضيعة التي اختطفت السلطة ونهبت الثروة على استعداد لأن تقترف أفظع الجرائم دفاعاً عن امتيازاتها وها هم الروس البشعون أعداء الاشتراكية يقودون الحرب على الشعب السوري لحماية عصابة الأسد التي هم أنفسهم جاءوا بها في نوفمبر 1970 كيلا تنتهج سوريا نهج الاشتراكية آنذاك . ذات الإجرام اقترفوه في الجزائر في العام 1965 وجاءوا برجلهم الهواري بومدين الذي رحل وترك خلفه عصابة (Junta) عسكرية تستبد بالشعب الجزائري .

 

في هذا السياق تحديدا يتوجب الوقوف بأناة أمام طرد خروشتشوف من الحزب في أكتوبر 1964 . البيان الرسمي الذي أذاع طرد خرووشتشوف من الحزب وهو أمينه العام علل الطرد بأن خروشتشوف كان يتخذ قرارات فردية دون موافقة المكتب السياسي، وكان هذا كذب وقح إذ ما جرى في يونيو حزيران 1957 كان طرد خمسة بلاشفة سحبوا الثقة من خروشتشوف ولم يبق من مجموع المكتب السياسي إلا إثنان ومع ذلك لم يقل أحد أن خروشتشوف اتخذ قراراً فردياً . نظام الحزب كان لا يسمح باتخاذ الأمين العام للحزب قراراً بمفرده حتى مع ستالين الذي لم يكن يتخذ قراراً حتى في الحرب وهو القائد العام للقوات المسلحة دون موافقة المكتب السياسي . خروشتشوف بات يدرك في العام 1964 خطورة الانحراف الذي انحرفه مستسلماً لجنرالات الجيش الذي لم يعد أحمر وأخذ يستعيد شيئاً من النهج اللينيني . وقد سجل أرشيف المكتب السياسي للحزب في العام 1964 خروشتشوف يشتم أعضاء المكتب السياسي قائلاً .."خراء ستالين أفضل منكم" ؛ بل وفي فبراير شباط 1959 أفتتح خروشتشوف المؤتمر العام الاستثنائي الحادي والعشرين مفاخراً بقيادة ستالين الطويلة للحزب متغلباً على شتى صنوف أعداء الاشتراكية لبناء دولة اشتراكية عظمى يفاخر بها السوفيتيون . لم يعد خروشتشوف هو خروشتشوف التقرير السري في مؤتمر الحزب العشرين آو خروشتشوف الذي قرر إلغاء الخطة الخمسية الخامسة .

مجمل شيوعيي التسعينيات ومنهم غورباتشوف نفسه شجبوا إدارة بريجينيف بوصفها غارقة بالجمود . لكن بريجينيف كان قد شارك في الانقلاب على خروشتشوف الذي كان قد بدا يعود للنهج اللينيني الذي عادة ما يصفه متثاقفو البورجوازية الوضيعة بالجمود العقائدي . الجنرالات الذين أرغموا خروشتشوف على الاستقالة وإلا قتلوه بالرصاص لم يكن لاستبدال جامد عقائدي بجامد آخر . بل كان الانقلاب العسكري لأن خروشتشوف في العامين 63 و 64 لم يكن هو نفس خروشتشوف المتعاون مع العسكر في الأعوام 53 و 56 و 57 و 61 وقد بدأ يدرك سوء صنيعه في التعاون مع جنرالات الجيش حين بدأ الاقتصاد السوفياتي يتراجع بصورة ملموسة فقرر في العام 1964 أن يخرج من تحت مظلة العسكر فكانت نهايتة. وما يجدر ذكره في هذا السياق هو أن خروشتشوف عبر عن بالغ ندمه على نقدة لستالين للرئيس أحمد بن بلا أثناء زيارته له في منتجع يالطا في القرم في مايو أيار 1964 .

اللغة السياسية السائدة اليوم في العالم هي لغة النفاق والكذب بجميع مفرداتها والتي منها .. الإمبريالية، الديموقراطية، التعددية، حقوق الإنسان، العدالة الإجتماعية، الإقتصاد المعرفي، المشاريع الصغيرة، العولمة الرأسمالية، الرأسمالية المتوحشة، التنمية المستدامة، البيروقراطية، الجمود العقائدي، تطوير الماركسية، توطين الماركسية ، الفكر القومي، الفكر الإسلامي ومفردات كثيرة أخرى . تلك هي مفردات لغة البورجوازية الوضيعة التي لا تعني سوى قضية واحدة بعينها وهي شرعية امتلاك البورجوازية الوضيعة لكل السلطة كما هو الحال في جميع بلدان العالم دون استثناء . البورجوازية الوضيعة لا تنتج أية ثروة، إنها تستهلك الثروة ولا تنتجها وهذا وحده فقط كاف لأن يحرم عليها أية سلطة .

لو علم منظرو ومتثاقفو البورجوازية الوضيعة أن الحزب الشيوعي البولشفي بقيادة ستالين كان قد زرع المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية عميقاً في الأرض كيلا تقوى أية قوى في الأرض على خلعه جذرياً لما تفوهوا بأي من هذه المفردات البلهاء . ينكر هؤلاء المنظرون والمتثاقفون بالطبع تواجد المشروع اللينيني حيّاً في عمق الأرض غير أن الحقيقة الصادمة لكل هؤلاء الأفّاقين أن مختلف الأنظمة الاجتماعية السائدة اليوم في جميع بلدان العالم هي ليست أنظمة إجتماعية مستقرة بل هي بالضبط حالة هروب فوضوي من الاستحقاق الاشتراكي الذي نجح العسكر الروس في تأجيلة لكن ليس لأطول من قرن قصير .