عند الحديث عن أن سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، فهذا كلام واضح ومفهوم إلى حدٍّ بعيد، ويعني جملة من الأشياء، من بينها أن سوريا المستقبل يجب أن تُنصف جميع مواطنيها، على اختلاف إثنياتهم ودياناتهم، ومنهم طبعاً الشعب الكردي، الذي تعرّض إلى التهميش ومظالم كبيرة طيلة عقود من حكم النظام البعثي.
وفي الواقع، يقرّ النظام والمعارضة السورية، خلال المناسبات العامة والمقابلات الإعلامية، بأهمية وضرورة إنصاف الكرد، وإعادة حقوقهم المسلوبة إليهم.

لكن عندما تأتي ساعة الحقيقة ولحظة اتخاذ مثل هذا القرار الجرىء، فإن كلاهما، أي النظام والمعارضة، يتنصّل من المسؤولية، ويُشهر البطاقة الحمراء في وجه الكرد، وتكون حاضرة دوماً تهمة الخيانة والعمالة لأمريكا والغرب عموماً.

موقف النظام من الكرد وقضيتهم مفهوم، فالعقلية الشوفينية الإقصائية لا تزال هي السائدة لديه، ومن غير المنتظر أصلاً أن يكون اليوم أرحم وأرفأ بحال الكرد من الأمس. وأزلام وأركان النظام يعلنون صراحة، دون مواربة أو لفّ ودوران، رفضهم للمشروع الكردي في شمالي سوريا، بأي صيغة كانت، سواء الإدارة الذاتية أو الفيدرالية.

ولوأد هذا المشروع، فإن النظام وضع جانباً جميع خلافاته مع الحكومة التركية، التي دخل معها في حالة عداء شديد خلال الثورة السورية لأسباب معروفة للجميع، وهناك الآن تعاون وتنسيق بين الطرفين، ولو بصورة غير مباشرة، برعاية حليفتيه إيران وروسيا، من أجل الحؤول دون نجاح التجربة الكردية في الشمال السوري.

وفي الوقت نفسه، فإن محاولات قوى المعارضة الكردية إدراج وتضمين الحقوق الكردية، بالصيغة التي تراها ملائمة ومعقولة، في وثائق ومشاريع الحل التي اشتغلت عليها مع قوى المعارضة العربية، خلال سنوات الأزمة، كانت على الدوام تثير عاصفة من الجدل وخلافات كبيرة. وقد شهدنا مرات عدّة حالات انسحاب لمعارضين كرد من اجتماعات ومحادثات أطياف المعارضة السورية، فضلاً عن حالات أخرى كان يتم فيها تهميش المعارضين الكرد، واستبعادهم عن النقاشات والمحادثات، كما حصل في أحد اجتماعات أستانة مثلاً، عندما تعمّد الاتئلاف السوري تغييب معارضين كرد في المجلس الوطني الكردي، الذي يعمل أصلاً تحت مظلته ويتحرّك وفقاً لأجنداته وسياساته.

وبينما كان النظام السوري صريحاً في التعبير عن موقفه السلبي الإنكاري من الكرد، كما أسلفنا، فإن المعارضة غالباً ما التجأت إلى سياسة التسويف والمماطلة حيال المطالب الكردية، متذرّعة بأن هناك ثورةً في البلاد، ويجب أن تُعطى الأولوية لمحاربة النظام، على أن يتم الخوض في مسألة حقوق الكرد، وغيرها من المسائل، إلى حين انتصار الثورة.

في ظل هذه الوقائع والمعطيات، كان من الطبيعي أن تتشكل لدى الكرد حالة من انعدام الثقة بشركائهم في المعارضة العربية، وكذلك النظام الذي لم يكن أساساً ولا في يوم من الأيام محطّ ثقة الكرد، هذا فضلاً عن مشاعر اليأس والخيبة التي انتابتهم، لما وجدوه أو اعتبروه تقارباً في وجهات النظر بين المعارضة والنظام في طريقة التعاطي مع المسألة الكردية في سوريا.

هذا الواقع هو الذي فرض على القوى السياسية الكردية، التي تدير الآن مناطق واسعة من شمالي سوريا، التفكير بشكل مستقلّ عن سبل ضمان حقوق الكرد والمكونات القاطنة معهم. وعلى هذا الأساس أعلنت بعض القوى والأحزاب، التي تمثّل الكرد والعرب والسريان وغيرهم، في البدء عن نظام الإدارة الذاتية في الشمال السوري ولاحقاً النظام الفيدرالي.

لذا إن كان البعض يرى في إقدام الكرد على هذه الخطوات الأحادية الجانب، أي بعيداً عن العودة أو التفاهم مع النظام والمعارضة، ما من شأنه أن يأزّم الوضع السوري، اليوم أو غداً، ويضرّ بمستقبل العلاقة بين الشعوب السورية، فإن عليه أن يبحث أولاً في مسؤولية النظام والمعارضة، وخاصة الأخيرة نظراً لعجزها عن تشكيل مظلة وطنية جامعة ينضوي تحتها جميع السوريين، وعدم قدرتها على أن تطرح نفسها كبديل مقبول عن النظام البعثي.

صحفي كردي سوري