عادت إشكالية "توازن الرعب" والأمن "القومي" الى الواجهة الدولية للأحداث عقب إعلان بيونغ يانغ عن "نجاح" تجربتها النووية السادسة عبر إطلاق قنبلة هيدروجينية من الممكن حملها على صواريخ باليستية عابرة للقارات، والتي تجاوزت في قوتها كافة تجارب كوريا الشمالية السابقة مسجلة هزَّة أرضية مقدارها 6.3 على مقياس ريختر؛ واعتبرت المنظمة الدولية للطاقة الذرية التجربة "خطوة مؤسفة للغاية"، في حين لم يستبعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخيار العسكري في إطار الرد على هذه التجربة. وقد دعا مجلس الأمن الدولي بالاجماع عقب جلسته الطارئة الاسبوع الماضي جميع الدول إلى التنفيذ الصارم والكامل والسريع لجميع قرارات المجلس المتعلقة بكوريا الشمالية. مؤكدا في الوقت عينه على ان الحل ينبغي ان يكون "سلميا ودبلوماسيا وسياسيا" و دون ان يتضمن إشارة إلى فرض عقوبات جديدة على كوريا الشمالية بعد هذه التجربة.

وقد اشار الرئيس الأميركي أن بلاده ستوقف العلاقات التجارية مع أي بلد يقوم بأنشطة تجارية مع كوريا الشمالية، بعد ان كانت قد لوحت الادارة الاميركية بشن "هجوم واسع " يستهدف بيونغ يانغ.

أما الصين وروسيا فقد استبعدتا في مواقفهما الرسمية السماح بالفوضى والحرب واعتبرتا أن إطلاق صاروخ طويل المدى أو سلاح نووي هو فقط ما يمكن أن يكون سببا لفرض مزيد من العقوبات.

المخاوف الدولية ليس من تداعيات زعزعة الاستقرار في منطقة بحر اليابان وشبه الجزيرة الكورية وحسب، بل لأن التورط في اي عمل عسكري من شأنه ان يدمر كوكب الارض عن بكرة أبيه.

إن جوهر الأزمة في حقيقته يطرح سؤالا حقيقيا حول جدوى "السلاح النووي " وهل بإمكانه ان يكون ضامنا لما يعرف ب"الأمن القومي للشعوب" وهل يحق للبعض امتلاكه دون آخرين؟ وما جدوى مجلس الأمن طالما ان قراراته تتحكم به خمس دول "نووية"؟

ان اندلاع حرب نووية من أشد الأمور مأساوية لأنّها تنذر بكارثة إنسانية حقيقية، وأزمة كوكبيَّةٍ شاملة، تطال كافة وجوه معاش الكائنات، وآثارها المدمرة تتجاوز كل ما يمكن أن يتوقعه الباحثون ربما، كما ان قرارات مجلس الأمن هي قرارات عاجزة وهو عجز حتمي كون الأعضاء الخمسة للدول الكبرى هم مُلاك الأسلحة. لذلك فهي اجتماعات فولكلورية جوفَاء أعجز من ان تسمح بالتوصل إلى مرحلة يصبح فيها كوكب الأرض بكامله منْزوع من السلاح، فهذه الدول مَنحت نفسها حقّ اقتناء السلاح النووي، وحرّمته على غيرها- لَيس من أجل الحدّ من الحروب بل لإبقاء الدول الاخرى تحت عصَا قنابلها وسلطتها-، فيما تسعى الدول "الإقليمية" عن طريق المراوغة والعمل سرًّا وعلانية الى امتلاك هذا السلاح بذريعة حماية "أمنها القومي".

منعطف تاريخي يجب التوقف عنه؛ فبعد ولادة الاتحاد الاوروبي اثر سقوط جدار برلين تنامت التساؤلات حول التغيير في المشهد الإستراتيجي الدولي، حيث وجدت الحكومات - لا سيما الاوروبية منها - نفسها مجبرة على إعادة تعريف الرهانات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية لخياراتها المتخَذة في مجال الدفاع، حيث كانت هناك توجه عام وأصوات تنادي بضرورة التخلي عن فكرة "الردع النووي " لحماية "الأمن القومي " فأتت تجربة كورية الشمالية لتعزز التطرف في العقائد الدفاعية التي تعتبران الردع النووي هو الضمان الأخير ضد تهديد المصالح الحيوية وأنه عامل مهم في الحفاظ على السلام في العالم.

وفيما يرى العسكريون ان توازن الرعب النووي ضرورة ملحة، نجدهم في الوقت عينه عاجزون عن تقديم السيناريوهات الاستراتيجية لجهة خطورة الاستخدام. فمن غير المنطقي المجازفة بتدمير النفس في سبيل الدفاع عنها، والكارثة ان تحكم غير العقلاء في تكنولوحية مدمرة كتلك.

ان معظم السياسيون كما العسكريون ينظرون الى قضايا الدفاع بوصفها تكنولوجية بحتة متغاضين عن كافة الاعتبارات الأخرى والتداعيات البالغة السوء التي تطال الانسان كما سائر الكائنات، وهم يتناولون شؤون الدفاع والأمن وفق مبادئ كتل النفوذ وتوازن القوى عبر الفراغ السياسي وكلها مبادئ تضع الإنسان في محور آلة الرعب ودائرتها. هذا التفكير العسكري التقليدي السائد يعتبر أن خير حل للنزاعات يتمثل في التدخل التكنولوجي ولا يأخذ بالحسبان الكمون الذاتي التنظيم للناس والأمم.

أما السياسيون فإنه يتغاضون عن علل النزاع وأسبابه الحقيقية مركزين بدلاً من ذلك على السيرورات الخارجية؛على الأفعال المرئية للعنف الفردي، بدلاً من العنف المؤسَّسي المنظَّم الخفي الذي يشرفون عليه بأنفسهم.

إن غالبية السياسيين الساحقة و- للأسف - تتعامل من هذا المنطلق أنه بوسعنا أن نزيد من أمننا بأن نجعل الآخرين يحسون بعدم الأمن. ولَمَّا كانت التهديدات التي تقوم بها أسلحة اليوم النووية تنذر بإبادة الحياة على الكوكب، فإن التفكير الجديد حول السلام يجب أن يكون بالضرورة تفكيراً شاملاً. لقد ولَّى زمان مفهوم الأمن القومي برمَّته في العصر النووي، ولم يعد في الوسع الآن القبول بأقل من الأمن العالمي المشترك.

ربما نحتاج إلى قراءة كوكبنا الأرضي وتفاعلنا معه بشكل يتجاوز كلّ القراءات السابقة، تكون قراءة متكاملة قائمة على المعرفة العلمية من جهة، وعلى الواقع من جهة دون أغفال العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية للشعوب، و يقوم على ركيزة أنه لا يمكن ان نحقق الأمن إذا سلبنا الآخرين منه، و ان "الخصم" يحتاج لأن يكون في أمان بقدر ما نحتاج، وانه لا بد من ايجاد حلول بديلة تضمن المصالح الحيوية و تأمين الدفاع بوسائل لا تنطوي على خطر تدمير أنفسنا معًا.

هذه الرؤية من شأنها ان تحقق الحد الأدنى الأمن الدولي المشترك فتحقيق السلام لا يتجسد في غياب الحروب وحسب،لأن الصراعات الكامنة دائمة وهي كالنار تحت الرماد، فالأسباب والأدوات المؤدية الى حروب طاحنة متوافرة في ظل غياب دائم للعدالة الدولية، وفي ظل انتشار الأسلحة المادية، وفي ظل تكريس حاد للاختلافات والنزاعات الثقافية والفكرية.

فهل ستتمكن الانسانية في لحظة حضارية الى التخلي عن "الاسلحة الفتاكة " وعن خرافة "الأمن القومي " لصالح السلام والأمن العالمي المشترك؟ أم أن البشرية ستُطوى في صفحة الكون الذي يسدل الستار عن أبشع فصول مسرحيات الدمار !