منذ بدء الإحتجاجات في بغداد وباقي مدن العراق في 31 تموز 2015 وتصاعدها الى إعتصامات ودخول المتظاهرين المنطقة الخضراء، وثمة تيار مدني إجتماعي متنامي رافض لممارسات ووجود أحزاب الإسلام السياسي في السلطة وأداءها وطامح الى تغييرها بأية طريقة كانت، حتى كان هناك من يدعو حينها الى إستخدام العنف لتحقيق هذا الغرض لكن حكمة القائمين عليها منعت إنزلاق الأمور الى هذا المنزلق الخطر رغم محاولة القوى الأمنية وبعض الميليشيات المرتبطة بأحزاب الإسلام السياسي جر المتظاهرين جرا الى العنف في مناسبات عديدة.دفع المتظاهرون ثمنا غاليا لإستمرارهذا الإحتجاج أملا في الإصلاح، وسعت قوى سياسية من بينها رئيس مجلس الوزراء د.حيدر العبادي إلى محاولة ركوب الموجة فأعلن عن خارطته للإصلاح التي من بينها إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس مجلس الوزراء التي هي مناصب تحاصصية لإرضاء أصحابها فقط ولا يؤدون عملا حقيقيا فيما يستلمون رواتب ضخمة تثقل ميزانية البلد خاصة إنها بالإضافة الى رواتب الرئاسات الثلاث غير مغطاة قانونيا- كان نواب رئيس الجمهورية يأخذ كل منهم مليون دولار شهريا وهو ضعف راتب الرئيس الأمريكي السنوي-وإستبشر المتظاهرون خيرا في إعلان رئيس مجلس الوزر اء ذلك وخرجنا يومها الى ساحة التحرير في غير موعد المظاهرة المعتاد يوم الجمعة لإظهار التأييد لهذه الخطوة وهنأنا بعضنا بهذا الإنجاز، وبادرني جاسم الحلفي بالقول "مبروك لنا هذا الإنجاز" كنت وقتها مأخوذا بإمكانية أو إحتمال تحقيق مطالبنا بمحاسبة الفاسدين فرددت بدوري له التهنئة "مبروك للعراق" لكن سرعان ما يئست من إمكانية تحقيق أي من مطالبنا وعاد نواب رئيس الجمهورية الى مناصبهم بقرار من المحكمة الإتحادية!

التقيت بعدد من قادة المظاهرات وطرحت أن تتركز مطالبنا في المرحلة القادمة على إنشاء مفوضية إنتخابات مستقلة فعلا حسب نصوص الدستور، وقانون إنتخابات عادل، ولم يحدث ذلك وتشكلت المفوضية "المستقلة" من مرشحي الأحزاب السياسية-كسابقاتها-، واقرمجلس النواب نفس قانون الإنتخابات القديم مع بعض التعديلات التي زادته سوءا، والذي لم يسمح لجاسم الحلفي في انتخابات 2014 أن يكون نائبا في مجلس النواب رغم حصوله على ما يزيد على سبعة عشر الف صوت فيما سمح لشخص حصل على أقل من الف صوت أن يكون نائب رئيس مجلس النواب. وتشبث قادة الحراك بمطالبات غير واقعية مثل (محاسبة الفاسدين) فحلقات الفساد كسلسلة مرتبطة ببعضها وإنفراط أحدها يؤدي إلى إنفراط كامل السلسلة وهذا لم ولن يحدث لأن الفساد مطلوب سياسيا بل هو ميدان التباري والمنافسة بين أطراف الفساد للحصول على هذه الوزارة أو تلك.

أفضل ما حققته المظاهرات إنها كشفت عورات النظام السياسي وعرت تماما أحزاب السلطة وأوجدت تيارا إجتماعيا رافضا لها لم تنجح القوى المدنية في إستثماره.كنا نأمل أن تشكل القوى المدنية كتلة واحدة قوية تستطيع أن تكون خيارا وحيدا للناخب لا تضم أي من أحزاب السلطة، فكان تحالف (تقدم) في البداية الذي سرعان ما إنفرط عقده وذهب الحزب الشيوعي للتحالف مع التيار الصدري الذي كان شريكا في كل الحكومات السابقة ويتحمل كغيره مسؤولية تاريخية في الفشل والخراب الذي عم البلاد زمنها، وترك رفيق دربه السابق (التحالف المدني الديمقراطي) الذي رفض الإرتباط بأي حزب من أحزاب الإسلام السياسي بإئتلاف إنتخابي حفاظا على تاريخه وعلى مطالب ناخبيه. فيما ذهب كل من فائق الشيخ علي وشروق العبايجي الى إنشاء تحالف "تمدن"!

كان يمكن أن يكون تحالف يضم القوى المدنية خيارا منسجما ومستجيبا للتيار الإجتماعي الذي أوجدته التظاهرات الرافضة لقوى الإسلام السياسي التي جذرت الخطاب الطائفي وتقسيم مقدرات البلد بينها كإقطاعيات مرتهنة لهذا الطرف أو ذاك، والتي فشلت في إنجاز اي منجز ملحوظ رغم الموازنات الضخمة طوال مدة وجودها، فيما بات بعض أفرادها يمتلكون عقارات ضخمة في لندن وابوظبي ولبنان مما وفرته له سنوات من الفساد، فيما كانوا سابقا معتاشين على رواتب الرعاية الإجتماعية التي تمنحها لهم بلدان اللجوء.

أظهر هذا التشظي ضعف التنظيم والتنسيق بين القوى المدنية وسيشتت الأصوات التي إستطعنا أن نفرضها كتيار مدني بإحتجاجاتنا وتضحيات اصدقاءنا ودماءهم الزكية، سنششتتها فيما الآخر إستخدم مفردة ال"المدني" واجهة لحزبه الإسلامي ذو الخطاب الطائفي قبل ساعة! وصار يحشد له الأصوات والتحالفات مع قوى داخلية وخارجية لا يمكن أن تبتعد كثيرا عن منهج المحاصصة الطائفية التي أنتجت داعش والفشل والخراب، بعبارة أخرى تتحمل القوى المدنية مسؤولية تاريخية في عودة أحزاب الإسلام السياسي ولغة المحاصصة الى المشهد في حال فشلها في تحقيق أغلبية قادرة على تشكيل حكومة وهو إحتمال كان ممكنا لكن تم وأده حال نشأته لأسباب مجهولة إن لم تكن أسباب شخصية.