تحل يومه الثلاثاء، الذكرى السابعة لخروج حركة "عشرين فبراير" إلى الشارع ، تنظيما مستقلا، يسعى إلى الإصلاح بالطرق السلمية ؛ حاملة دفتر مطالب سياسية ومجتمعية ، ركائزها الأساس : العدالة الاجتماعية وكرامة المواطن، وأيضا محاربة الفساد والتشهير برموزه وأقطابه، إذ لم يتحرج "الفبرايريون " من كتابة أسمائهم الحقيقية بأحرف بارزة في لافتات وشعارات رفعوها في تجمعات وتظاهرات دعت إليها الحركة في عدد من المدن والبلدات المغربية ، تفاوت منسوب الاستجابة لها بالحضور والمشاركة، من مكان إلى آخر.

راهن المتعاطفون مع الحركة وهي في عنفوانها ،على قدرتها لتخليق الحقل السياسي المغربي وإصلاح أعطابه، بأسلوب في الاحتجاج وتعبئة مغايرة للأساليب المألوفة والعتيقة .

وبما أن المراهنين عولوا ، من جهة ثانية ،على صمود الحركة وامتدادها الجماهيري في مناطق المغرب ؛ فإنه يصعب عليهم راهنا ، تصديق أنها أصبحت في خبر كان أوفي عداد المفقودين ، كما يقال .لا يوجد ورثة يتبنون تركتها أو جهة لها مصلحة في الإعلان عن وفاتها وإقامة جنازة لائقة يتحلق حول نعشها المشيعون الأوفياء .

وفي الحقيقة ، لم تكن "عشرين فبراير " مجرد نزوة حالمة أو سورة سياسية رومانسية ،وإنما تجلت قوتها الرمزية في أنها حركت في ظرف أيام ، مياها ظلت راكدة في المجتمع المغربي لسنين ؛ ليتبين أن تحتها رغبة جماعية دفينة في الإصلاح والتغيير. نزعة سكنت نفوس المغاربة عبر عقود من الانتظار توالت خلالها الصدمات والخيبات من تكرار تجارب ديموقراطية ناقصة، أهدرت البلاد بسببها وقتا ثمينا .

صحيح أن الحركة لم تكن في جوهرها وتوجهاتها، سوى رجع صدى بعفوية وبراءة ، لما اندلع بالتتابع في عواصم عربية ، ضمن ما سمي بحالة "الربيع العربي" لكنها كانت ذات مذاق خاص.

يحسب لها أنها نجحت ،رغم قصر عمرها ، في بلورة نموذج مغربي للاحتجاج السلمي،لم يكتب له النضج والاكتمال بما يمكنه من تمثل المعرفة العلمية مفتاح استيعاب تطلعات المجتمع وكيفية تحويل هتافات الحناجر والصدور في الساحات العامة إلى انجازات ملموسة، في سياقات بالغة الاضطراب ،زادها تعقيدا تنافر في الرؤى بين أجيال المحتجين الغاضبين ودرجة وعيهم بالمطالب المرفوعة وطرق تنزيلها في شكل مقترحات بناءة .

ذلك "الخصاص" وسم احتجاج "عشرين فبراير" بالهواية ، إذ سرعان ما اصبحت سجينة الأحلام الرومانسية ففقدت القدرة على تجاوز نفسها فكريا. 

ولم تنتبه الحركة ، إلى مخاطر العلل التي علقت بها ؛ وحين أحست بالضعف والوهن، وهي في بداية الطريق ، لم تعرف كيف تشخص أمراضها وأسباب الارتخاء الذي دب في جسمها وبالتالي عجزت عن تدبير العلاج؛ فأفل نجمها وذوى عودها وخفت وهجها وإشعاعها بل بحت أصواتها الهادرة؛ فما الذي اعتراها ؟

 إن أية حركة جماهيرية ،من دون قيادة مدركة لدقة الظرف السياسي وتخلط بين الوسيلة والهدف ؛ لهي معرضة حتما للإخفاق والاندثار؛ ما لم تحسن تقدير حجم قوتها الذاتية وانتقاء حلفائها وملائمة برنامجها مع طبيعة المرحلة والوضع الذي تطمح إلى تغييره ،دون قفز في الهواء..

هو قانون ينسحب على سائر الانتفاضات التي تنفجر بشكل فجائي وعشوائي في مجتمعات مماثلة ؛ خاصة وأن الحركة تأسست على أخلاط غير متجانسة فكريا وعمريا، أدى إلى ظهور أجندات متباينة بين الناشطين فيها ،أثناء التأسيس وبعده .

وتلك أسباب ،دون أخرى، كافية لكي يتقلص عمر"عشرين فبراير" فلم يتجاوز الفترة التي أفرطت خلالها في تسويق الأحلام ، دون قيادة مجربة ترسم لها خارطة طريق، تسير فيه الحشود ويستقطب مزيدا من الأنصار والمؤيدين ، ملتفين حول أجندة للإصلاح والتغيير الديمقراطي.

لقد صفق لمقدم الحركة وهلل لها بحماسة مريبة ، حزبيون خذلتهم تنظيماتهم بصراعاتها وانقساماتها وتشرذم منتسبيها ، فانسحبوا من القافلة محبطين يائسين من العمل السياسي ،لدرجة أنهم ناصبوا أحزابهم الأصلية العداء أو انتقلوا إلى النقيض. توهموا أن الخلاص جاء على أيدي الشباب العذري ، النظيف من شوائب الممارسات الحزبية العتيقة .

والواقع أن كثيرين ممن سارعوا وتسابقوا للركوب في قادرة 20 فبراير، فعلوا ذلك بدافع التعويض عن الفراغ الذي أحسوا به ، وآخرون حاولوا الالتفاف علي الحركة واستعمالها ورقة وقودا في معاركهم مع النظام .

لقد غاب عن أولائك أن المغرب، دشن عهدا جديدا في الحكم ؛ أشهر إرادته في الإصلاح بإطلاق أوراش مؤسساتية كبرى، مشفوعة بسياسات وتدابير شجاعة وجريئة وغير مسبوقة ؛أرسلت إشارات في إبانها إلى من يعنيهم الأمر، أن مستقبل البلاد مرشح ومؤهل ليكون أفضل من ماضيها القريب والبعيد ، وأن قطار التغيير قد تحرك بسرعة متدرجة ، لكنه لن يتوقف أو يعود القهقرى مهما كثرت عراقيل الطريق ونأت الأهداف.

لو قيد ل"عشرين فبراير" من يدون تاريخها بموضوعية وتجرد ، دون مبالغة أو تبخيس ،للوقوف والتمعن في محطات قوتها وانحسارها ، لوصل إلى استنتاج أن الحركة توارت مثلما ظهرت بسرعة واستغرقت عمرها الافتراضي والقانوني . ولو أمعنت في البقاء لتحولت إلى عبئ على نفسها وعلى البلاد.

تركت ذكرى طيبة ودرسا مفيدا بخصوص حدود العمل السياسي العفوي غير المنظم .

إن نعت التلقائية ، ليس عيبا ولا سخرية من الشباب واليافعين الذين نزلوا، زرافات ووحدانا ، إلى الساحات والميادين ، استجابة لنداء افتراضي ، انبعث من بين خيوط الشبكة الرقمية العنكبوتية. طاوعه الفتيان واتخذوه مبررا لمغادرة الأقسام الضيقة والدروس المملة ، معربين عن امتعاض من أساليب التلقين الرتيبة ونفور من معرفة لا تخاطب مشاعرهم وطموحاتهم ,تشعرهم أنهم على مسافة من العصر، بعيدة عن انشغالات أقرانهم في المجتمعات الغربية الجاذبة

كان طبيعيا أن ينساقوا وراء الرياح الهوجاء التي هبت على المنطقة العربية وزعزعت أنظمتها الهشة .

التقوا ، ذكورا وإناثا ،من أعمار متقاربة . اكتشفوا أن بينهم الكثير من أوجه الشبه : يتقاسمون ذات الاهتمامات والتطلعات .لهم نفس الأحكام والنظرة إلى مجتمع الكبار الذي لا يصغي أليهم ولا يبالي بمشاكلهم الصغيرة والكبيرة وبما يعتمل في وجدانهم وأذهانهم من أحلام تراود من في مثل أعمارهم في مجتمعات أخرى .

وهذه القراءة المتواضعة قد لا تعجب كثيرين ؛ سيستشيطون غضبا إن قلت إن العاهل المغربي الملك محمد السادس، أنقذ حركة عشرين فبراير ، من منزلق خطير دفعها إليه أولائك المورطون . لم يستجب الملك إلى ما رفعته الحركة من مطالب لم تكن مدركة لأبعادها ، لكنه تجاوز السقف الذي حددته ، فاسقط في يدها، حسب التعبير اللغوي الشائع، أو بالأحرى أدركت أن مهمتها انتهت وآن لها إخلاء الميدان،دون خسارة أو تآكل ذاتي.

لم تخسر الحركة رصيدها المعنوي ، ولم يستعمل النظام العصا الغليظة فكانا فهما الرابحين ولو بدرجة غير متكافئة .

كان بإمكان "عشرين فبراير" أن تتحول إلى قوة اقتراح ، تشتغل ضمن فضاء لنقاش سياسي متحرر من القوالب البالية والصيغ الجاهزة ؛ لكن تيار الحكمة والعقل انتصر فيها ، فودعت دون ضجيج وانخرط محركوها في الحياة العامة ؛ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

هل ستنهض الحركة من جديد ؟ قطعا لا. فعدد الدين وقفوا أمام البرلمان المغربي في ذكراها الأخيرة ، كان اقل من أسراب الحمام التي يلتقط الحب الذي يتركه المارة في الساحة .