حضارات وثقافات وكيانات ومشروعات وأنظمة سياسية واقتصادية وفى مختلف مجالات النشاط الانسانى كانت ملئ السمع والبصر وشاشات اسواق المال ، وأبهرت العالم بصعودها المذهل ، وفجأة حدث مالم يكن فى الحسبان ، انهارت هذه الصروح فى مشاهد دراماتيكية عجز مراقبيها وأتباعها وحتى أعداءها عن تفسيرها ، وبكى رئيس نوكيا وانتحر هتلر وبكى عبد الناصر وتفكك الاتحاد السوفييتى وكثيرون ذرفوا دموع غزر لكنها كانت بكائيات على لبن مسكوب ، وكان المشترك المأساوى الذى عجل بنهايات هذه الكيانات متعدد ، وبينما تنشغل جامعة هارفارد ببحث الاسباب التقنية والادارية لانهيار نوكيا سنجتهد نحن فى هذا الطرح ببحث انهيار كيانات أخرى لاتمت بصلة للهواتف النقالة لكنها نالت نفس المصير المحير ،وسندهش عندما نستخلص بعض أسباب انهيارها ونجد ان عوامل كثر مشتركة ساهمت فى مثل هذه نهايات ، فماذا حدث لتسقط نوكيا العريقة هذا السقوط المدوى وماذا حدث للرايخ الثالث لينال هذه الهزيمة المهينة وماذا حدث لمشروع القومية العربية وماذا حدث لمشروع حكم البلوريتاريا الاشتراكى العظيم و.و..

وان كنا نتحدث عن بعض مارأيناه رأى العين وعاصرناه لكن هناك فى التاريخ نماذج طبق الاصل انهارت دون ما سبب مقنع أو واضح ، والنموذجان فى عنوان الطرح لمستهم وعايشتهم وانفعلت بهم ، هاتفت بنوكيا ولازلت وهتفت لعبد الناصر ورغم كل ماحدث لازلت ،انبهرت بنجاح نوكيا التقنى وانبهرت أكثر بمشروع عبد الناصر القومى ، ورغم الفارق الهائل بين هذه المشاريع فى الأهداف والوسائل الا أن عوامل انهيارها المشتركة متعددة مع بعض الفوارق غير الجوهرية .

تقول كلية الادارة بجامعة هارفارد أن الايغال فى الاخلاص لهدفبغرض الوصول للقمة بأقصى سرعة ممكنة يجعل الانتباه للاحداث الجانبية غير متابع أو غير متاح أو غير مهم ــ من وجهة نظر المسئولين ــ وبالتالى تحدث تغيرات تبدو فى البداية غير مؤثرةوطفيفة ، ثم تتراكم الى أن ياتى الوقت الذى يصبح فيه التراجع وتصحيح المسار غير متاح لفوات الأوان ، هذا مضمون بعض ماتقوله هارفارد ونجتهد ونضيف من عندياتنا أنه فى غمرة نشوة النجاح والصعود المبهر لاأحد يهتم بنمو المنافسين (والأعداء ) فقد نمت سامسونج وآبل وتغذت على أخطاء نوكيا وبدأوا من حيث انتهت ،وفى غمرة الفرح الطاغى بنجاحات مرحلية نسى عبد الناصر أن اسرائيل لم تعد معسكر استقبال مهاجرين ،وأن حكام محيطه العربى بات يعتبرونه خطرا محدقا على كراسيهم ، وأن بريطانيا العظمى تبيت له ثأرا بضربة قاضية ،ونضيف أيضا أن دورة الحياه الحتمية لاتسمح باللانهاية لشئ أو لشخص أو لكيان أو لحضارة أو لنظام ،حيث يجب أن يتوقف كل شئ فى الكون عند لحظة عند حد عند فاصل فقد اكتمل ووصل الى المرحلة الحتمية الحاكمة للتاريخ وصل الى الشيخوخة ويجب أن يسقط ، لتبدأ دورة حياه جديدة بمعطيات جديدة بشخوص جدد لزمن جديد ، دورات صعود وهبوط متتالية لحضارات وكيانات وحتى ديانات لتستمر جدة الحياه ،هذا ان جاز هذا الاجتهاد الذى قد يعتبره البعض تفسير دينى للأحداث ، وهو ليس كذلك لأنه مطبق منذ فجر التاريخ قبل الآديان فقد سقط الفراعنةكمشروع حضارى ولازال التاريخ عاجز عن تفسير اعجازهم العلمى والتقنى ،وسقط العثمانيون كمشروع دينى سقوطا مدويا وسقط هتلر سقوطا مهينا لم يكن يتوقعة ألد أعدائه .

وأسباب كثيرة واجتهادات لفلاسفة وباحثين وحتى متصوفين وكلها أو جلها رغم اختلاف العناوين من صراع حضارات الى صراع ثقافات الى صراع أديان وصولا الى حروب ، كل هؤلاء يقولون بوجوب احترام المبدا الازلى مبدأ الاحلال والتجديد والتوالى والتعاقب التاريخى الحتمى فلا ديمومة لفكر أو نظرية أو زعامة أو نظام.

ولعل الجدل الدائر حول قواعد ونظريات ومبادئ فى كل فروع العلم والاقتصاد والاجتماع نالت مع مخترعيها درجة من القداسة العلمية فى حينها ،هذا الجدل بدأ فى النيل من مصداقية هذه النظريات المستقرة ونقد ها فقد سقط ماركس وانجلز وهاهو انيشتين ونيوتن على المحك وداروين بات يصارع ،وهؤلاء كنا ننعتهم تمجيدا بسابقى عصرهم وهم فعلا كذلك لكن بالنسبة لعصرهم ، أما الان فهذا عصر جديد وهؤلاء العظماء ومشاريعهم ونظرياتهم وزعاماتهم من عصر مضى نالوا نجاحا بمقاييس بيئة عصرهم​اما بمقاييس عصر جديد فما أنجزوه هوالآن تحت المراجعة والنقد والتحليل ،ولذا تعيش بعض الامم ازمة طاحنة فهى تتمسك بمقاييس عتيقة لعصور سحيقة وتطبقها على منتج عصر جديد فتخرج أفكار لاتمت للماضى ولا للحاضر مسخ مشوهة لاملامح لها سقوطها وسقوط معتنقيها مسألة وقت لاأكثر .