وردتني مؤخرا دعوة لزيارة ابنتي المقيمة في كندا لأقضي معها ومع أولادها بضعة شهور لكنني لم اهلل لهذه الزيارة فرحا وغبطة رغم المعاناة التي أقاسيها في وحدتي ، فليس لي سوى القراءة والكتابة ملاذا ورؤية الاعمال الفنية حيزا جميلا يشغل وقتي وينفع عقلي ويغذي نفسي متعة وبهجة وسُلوّا عما فقدت وانا في هذا العمر الذي يكاد يأفل نجمه وينحسر ضوؤه على حين غرّة .

اتصلتُ بها هاتفيا وأنا في غضب شديد وعنّفتها لسانا لأنها لم تبلغني قبلا بما عزمتْ عليه اذ جاءتني الدعوة دون سابق علمٍ او معرفة ، وكيف لي ان اسافر وقد بلغ بي الهرم مبلغا ؛ فليس لي غير بلادي مرتعا وسقفا حتى لو اهتز قليلا وبضعة من اصدقائي المتبقين هنا يؤنسونني حينما نلتقي بين آنٍ وآخر ، فقد انتهى زمن الترحال والتجوال وحزم الحقائب والتدوير بها بين المطارات ومحطات السفر .

قبل خمس سنوات وتحديدا في بدء العام / 2013 يوم كانت لديّ بقية قوة وعزم ؛ أتيحت لي فرصة ان ازور ابنتي في مدينة فانكوفر الكندية واستقررت فيها اياما جميلة بصحبة آخر عنقودي مع احفادي هناك لأنفلت مما يجري ببلادي من موبقات وقلاقل وأهدأ عندها قليلا ريثما أعيد توازني وأعود بعدها الى بلادي بقدَر وافٍ من الراحة والسكينة والهدأة فقد كنت وقتذاك في حالة مربكة ، لكن هذه البلاد منبتي ومحتدي المسماة بالعراق يبدو انها تلاحقني اينما رحلت وحيثما أزفت حتى لو رميتُ في أخر الأرض مثلما تقول السيدة فيروز في احدىأغنياتها المؤثرة ( يا حبي صرت بآخر أرض – عمْ امشي وتمشي فيّ الأرض – لوينك بعدْ لاحقني ) .

ولأن ابنتي على شاكلتي العرجاء في حنينها المفرط الى مسقط رأسها وملاعب طفولتها وصباها حينما لمحتني اشعر بالوحدة والانطواء هناك؛ فقد دعتني في احدى الأماسي عندما رأتني مكتئبا الى احد العروض الاوبرالية في مقر أقامتها ، كان العرض اسمه " الفلوجة " يتناول جانبا مهما من العمليات القتالية الشرسة التي حدثت في مدينة الفلوجة العراقية بعد الغزو الذي تزعمته الولايات المتحدة الاميركية مع حلفائها عام /2003 وما أعقب ذلك من حروب بين مايسمى قوات التحالف من جهة والمسلحين في المدينة المذكورة من جهة اخرى خلال الاعوام التي تلت الغزو والتي كان أشدّها معركة الفلوجة الثانية عام/2004 والتي اشتركت فيها قطعات من مشاة البحرية الاميركية ضد المسلحين في المدينة والتي أدّت الى خسائر فادحة لدى الجانب الاميركي وقوات التحالف المرابطة معه ليس على صعيد المعدّات والسلاح انما على الجانب النفسي والتدهور المعنوي والخيبات واليأس والكآبة التي منيت بها القوات الغازية وشرذمتها .

في هذا العمل يتحدّث الجندي الأميركي الشاب (كريستيان ايليس) عن معاناته الرهيبة بفزَعها وهولها في وطيس الحرب وكيف عاد الى اهله محمّلا مثقلا بالصراعات النفسية والخوف والهلع والكوابيس الحلمية من الأهوال التي رآها هناك ، فقرر ان يجسّدها بعمل فني اوبرالي سمّاه / الفلوجة وقد الّف موسيقاها الفنان الكندي (توبينستوكس ) .

تتناول الاوبرا تحديدا الاعراض المرضية والقلق والمعاناة النفسية التي لاتحتمل والتي خلّفتها الحرب على شخصية (كريستيان) ورفاقه جنود التحالف وهم يُقتَلون بالجملة امام عينيه وحالات الانتكاس التي خيّمت على الجنود والرعب الذي تعرّضوا له ، ليس هذا فحسب انما الاعراض التي بانت عليه وعلى رفاقه والتي سمّاها " أعراض مابعد الصدمة " وكأنها لعنة دائمة حلّت بهم كالتي نسمع بها في قصص الميثولوجيا .

وصاحبنا كريستيان هذا قد تقاعد مؤخرا من الجيش وتم تسريحه لأسباب سايكولوجية واتجه الى اخذ دروس في الغناء الاوبرالي الذي يعشقه منذ الصغر، وبعدها تعرّف على احد الاثرياء ونجح في اقناعالثريّ على انجاز عمل الاوبرا ودعمَه ماديا كما وقف الى جانبه صديقه الموسيقي الكندي (ستوكس) ووضع له الموسيقى بدون ان يأخذ منه اجرا وأعانته الكاتبة (هيذر رفّو) المنحدرة من اصول عراقية حتى اكتمل العمل الفني وعُرض واستقبل استقبالا مُرضيا بعض الشيء وكان له صداه المقبول نسبيا في فانكوفر والمدن الاخرى في الغرب الكندي .

يقول كريستيان بشأن عمله الفني: ان الحرب لاتنتهي حتى لو وضعت اوزارها وعاد المقاتل الى بلاده فهناك جراح خفية تنزف دوما ، نعم قد ننخرط في حياة طبيعية ونمزح ونضحك ويتوقف الجرح مؤقتا ولكنه سرعان مايعود الى النزف مجددا ، ويستطرد في الحديث قائلا انه فكّر بالانتحار مرارا تخلّصا من جحيم الحرب ولم يجرؤ ؛ لكن بعض من كان معهُ علّمته الحرب ان يكون جريئا وانهوا حياتهم منتحرين كما ان هناك جنود مضوا قدما في انهاء حياتهم هربا من سعير الحرب التي لاتطاق .

ويؤكد كريستيان ان انشغاله بهذه الاوبرا خفف كثيرا من العبء الذي كان يحمله مع زملائه واصبح يساهم في علاج نفسه بالفن والموسيقى والعمل الاوبرالي الذي انجزه بالتعاون مع زملائه ، فالفن وحده هو العلاج الناجع الشافي لإزالة آثار الحرب في النفس الانسانية وتطهير الجسد والروح معاً من آثام الحرب ومخلفاتها المريرة .

اما الكاتبة (رفّو) فقد استطاعت ان تتفهّم الاجواء التي عايشها كريستيان في العراق وقد حرصت ان تكون اكثر حضورا وقربا من الوضع العراقي المأساوي الذي عايشه زميلها هناك في مدينة الفلوجةبالذات .

ويجدر ان الموسيقى العراقية كانت حاضرة بوضوح في هذه الاوبرالأن المؤلف الموسيقي " ستوكس " على اطلاع جيد بموسيقانا وسبق له ان استمع مقطوعات موسيقية عراقية تراثية ومعاصرة ، وقد لاقى العرض أينما أقيم استقبالا مقبولا نوعا ما من لدن الكثير من الجالية العربية المقيمة هناك وحتى من الكنديين ذوي الأصول الغربية ، كما كان يأمل المشاركون ان يعرض عملهم في امريكا ويجوبون كافة الولايات المتحدة ليراه ويسمعه اكبر حشد من الناس هناك وهذا هو مطمح كريستيان وكل زملائه الذين اخرجوا الأوبرا الى الوجود .

أنوّه هنا ان هذا العمل الاوبرالي الذي حضرته بدفعٍ وإلحاح من ابنتي الهائمة ببلادها مثل أبيها لم يكن هائلا برقيّه كما نعرف في النشاطات الاوبرالية المصاحبة للغناء ذي الطراز الفريد المتعارف عليه صوتا وكلماتٍ لكنه يحكي عن بلاد القهرين فقد أعادني ردحا من الوقت الىوطني ومآسيه وصخبه وحروبه وغنائه الحزين واضطراباته التي أهجس انها لا تنتهي على الاقل في الوقت الحاضر حتى ان هذه الانعكاسات المخيفة أصابت غيرنا بالعدوى مثل حال الجندي كريستيان ورهطه وزملائه وحالي انا الذي مهما بعدت عن وطني أراه يتبعني ويلتصق بي همّاً وسقما دائما سواء في حلّي او ترحالي ولا يتركني حتى في منآي البعيد جدا عنه .

بعد انتهاء العرض همستُ في أذنها لائما وعاتبا : ألم تجدي غير هذه الاوبرا لتشعلي الحنين فيّ وفي أعماقك ؟؟؟ .

آن الأوان ان أبقى هنا في مسكني وملاذي ولا ابرح مكاني واخلد إلى الراحة والهدأة وأرقب زائري المقبل حتماً عندما يحين الحين ليأخذني الى الابدية عسى ان أجد سكينة وهدوءاً وراحة بال بديلا عن الهرج والمرج واللغط والضجيج والجعجعة الفارغة من الطحن والتي تعوم في بلادي التي لا تستكين أبدا .