هاقد مرت الأعوام الخمسة عشر على حدث التغيير السلطوي في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003 وكان المنتصر الأول هو دولة جارة عانت ويلات الحرب مع العراق طيلة عقد من الزمن تقريباً ونجحت في استثمار هذا المناخ وهذه الفرصة التاريخية لتكرس شبكة تأثيراتها على كل الصعد داخل العراق لتحوله إلى شبه محافظة تابعة لتصريف البضائع والمنتجات والتحكم في السيرورة السياسية على أعلىالمستويات ، فهي تتكم بكل صغيرة وكبيرة، كما انتصرت إسرائيل لأنها حيدت وحجمت بلدا عربيا تحطم أمام ناظريها بدون جهد عسكري أو مالي من قبلها وكانت هي المستفيدة من تحطمه وخروجه من معادلة الشرق الأوسط الجيوستراتيجية . كسب المكون الشيعي بعض الامتيازات مثل استلامه لزمام السلطة العليا ممثلة برئاسة الوزراء وهي إحدى جانب الرئاسات الثلاث الى رئاسة الجمهورية الشرفية البروتوكولية ورئاسة مجلس النواب، وخروجه بمسيرات مليونية يلطم ويندب على استشهاد الحسين لكنه في واقع الحال يبكي على حاله المزري دون أن يشعر. وبالطبع الكورد العراقيين الذين حصلوا على شبه استقلال في اقليمهم في الشمال العراقي قبل معضلة الاستفتاء على الاستقلال حيث بدأ بدفع الثمن غالياً لتداعيات ذلك الاستفتاء، ولقد تراجعت حظوظ وامتيازات المكونين شعبياً وجماهيرياً ، واستفاد تنظيم القاعدة الإرهابي الذي تحول فيما بعد إلى الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" واحتل ثلث أراضي العراق عام 2014 قبل اندحاره في نهاية عام 2017 بعد تضحيات جسام في الأموال والأرواح مما خلق ازمة اقتصادية خانقة وخطيرة في العراق. أما الخاسر الأكبر فهو الشعب العراقي والمدنيين بارتفاع نسبة البطالة وانسداد الأفق أمام الشباب وزيادة الفقر والفقراء وغلاء المعيشة وانعدام الخدمات وتنامي الحركة الاحتجاجية ضد المحاصصة والمطالبة بسلطة مدنية ديموقراطية اساسها المواطنة والكفاءة والنزاهة ومحاربة الفساد. وهناك تداعيات ونائج حرب تحرير الموصل والمحافظات الغربية التي احتلتها داعش وتحديات اعادة الإعمار مع خواء الميزانية العراقية حيث هناك قطاعات واسعة من الموظفين لم يستلموا مرتباتهم منذ ثلاثة اشهر، الى جانب مآسي وحكايات درامسية في الحياة اليومية العراقية. .

ومنذ خمسة عشر عاماً وأنا أحاول، من داخل العراق ومن خارجه، أن أفعل شيئاً مفيداً ونافعاً للعراق اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، ولكن بلا جدوى، إذ كنت كمن ينطح رأسه العاري في كتلة فولاذية. فالدولة ومؤسساتها، والشعب بكل مكوناته، يعيشون في

عالم فنطازي غير معقول وغير منطقي، في عراق القانون والفوضى، حيث هناك في العراق مفهوم يتداوله عامة الشعب يسمى " المتاهة الإدارية" والتي تعني أنه لا يمكن للمواطن أن ينجز معاملة إدارية مهما كانت بسيطة إلا بعد مروره على عدد مهول من المكاتب والدوائر والتوقيعات ، وكل واحد منها يتطلب الصبر وتحمل المعاناة والإهانات يرافقها التوسلات والرشاوي ناهيك عن التأخير وتضييع الوقت قصداً وعلى نحو متعمد لإذلال المواطن وإرغامه على الدفع حتى ولو من أجل توقيع بسيط لموظف من الدرجة العاشرة، نفس الممارسة تواجه شركات المقاولات والاستثمارات حيث على معقب المعاملات باسم الشركة ان يدفع ورقة نقدية أمريكية أي مائة دولار على كل توقيع كحد ادنى ناهيك عن العمولات والقومسيونات التي تصل الى ملايين الدولارات في كل صفقة. فالزمن لا قيمة له في العراق وعلى كافة الصعد والمستويات وفي كل اسبوع عدد من العطل تتصل مع عطلة نهاية الاسبوع مما يشل البلد على مدى اربعة ايام من اصل سبعة يكون الدوام فيها نصف نهار حيث ينتهي الساعة الثانية بعد الظهر. فسياسة المحسوبية والمنسوبية هي القاعدة وليس الاستثناء خاصة في الوظائف وطريقة منحها فلكل درجة وظيفية ثمن من البواب الى الوزير من " الشدة "ـــ أي العشرة آلاف دولار ـــ الى بضعة عشرات الملايين من الدولارات حسب نوع المنصب ــ وزير أو وكيل وزير أو مدير عام ـــ وهناك وزراء اشتروا مناصبهم بمئات الملايين من الدولارات ويريدون استرجاعها مع الأرباح خلال اقل من اربعة اعوام ، انه مشهد سوريالي . والسمة الطاغية في المجتمع العراقي هي التحايل و النفاق والتزلف والانتهازية والكذب والنرجسية وعدم الالتزام بوعد أو موعد خاصة لدى المسؤولين الكبار في الدولة ، وكل ذلك مؤطر بمناخ عنف وترهيب بقوة السلاح والقتل والخطف على يد مجاميع مسلحة خارج إطار الدولة الشرعية باتت تشكل مراكز قوى مسلحة لها امتدادات داخل جهاز الدولة بل وداخل السلطة الشرعية وكما يقول العراقيون ــ كنا محكومين بصدام واحد فصار يحكمنا اليوم ألف صدام ـــ الطبقة السياسية برمتها فاسدة حتى النخاع في العراق ولقد شرعنت اللصوصية والسرقة واستغلال المنصب والزبائنية وشراء الذمم والولاءات، ولولا النفط لتحول العراق الى دولة موز كما يقول المثل الفرنسي . هناك مظهر خارجي لدولة ولمؤسسات ، لا سيما المؤسسة القضائية ، التي تحاول أن تعمل على نحو طبيعي وفق السياقات العالمية المتعارف عليها ، خاصة فيما يتعلق بمحاكمة الإرهابيين الأجانب المعتقلين والمتهمين بمحاربة العراق في صفوف داعش . ما عدا ذلك، كل شيء أوهام وجزع ولامبالاة ويأس من القادم والخوف من المجهول والكل يحاول الهروب بأية وسيلة ممكنة من هذا الواقع المخيف ولا أمل في التغيير والانتخابات التشريعية القادمة ليست سوى مسرحية فكاهية اقرب للتهريج منها للكوميديا حيث إن نتائجها معروفة سلفاً.