كم كنا بحاجة إلى هذه الأربعين عاماً االمكثفة داخل معسكر الفكر المتطرف!

على حين إن البعض قد يجدها سنوات مختطفة من عمر الوطن، والبعض الآخر يراها أزمنة مهدرة كبدت المجتمع خسائر وفرص لاتعوض، سيشعر البعض الأخير بالوحشة والغرابة لانحسار ذلك الفكر المتطرف، أنا هنا لا أعني أبطال ذلك الفكر ونجومه.

لكن أتحدث عن شرائح عديدة في المجتمع بخلفيات صحراوية شبه زراعية بمكون ديني بسيط لم يكن الاشتغال الفلسفي فيه حاضرا, لذا بعد الطفرة الاقتصادية النفطية وحدوث حالة انقطاع بينهم وبن عالمهم الآمن النائي، كانوا وقتها في أشد الحاجة إلى إطار مطمئن لتصوراتهم عن العالم، وأوعية غير مثقوبة يثقون بها و يتلقفون دفق العالم الشاسع داخلها.

كانت تلك المجتمعات تكابد التوتر والاسترابة من الجديد والطارئ, استرابة الصحراوي العتيق من الغريب القادم والذي قد ينازعه رزقه الشحيح, لذا في خمسينات القرن الماضي وبروز ما يسمى بالإسلام المسيس في فضائها الفكري، تأسس هيكل فكري فقهي يمتلك الإجابة القاطعة لكل الأسئلة ويصلح أن يكون ترياقا ناجعا لمعضلات تلك المرحلة.

والآن عندما تمر بنا فتوى عن مشروعية لبس الغترة البيضاء أو قيادة الدراجة، نجدها ساذجة وتثير الضحك، ولكنها في وقتها كانت تلك الفتاوى هي المدخل الأول في تفسير الكون.

لذا مجتمع بهذا القدر من الحذر، وبحساسية مرتفعة من العالم الخارجي، كان لابد أن يمر بفترة الصحوة، ويشهد أطوارها وتحولاتها، ومخرجاتها الشحيحة، ويصدم بمآلاتها التي جعلت من المجتمع المحلي في وقت ما يقدم مفارقة على المستوى الدولي.

 حيث اقتصاد من أقوى 20 اقتصاد في العالم، ولكنه يعاني مشاكل في البطالة والتعليم وكثافة الأجنبي., و تهيمن عليه الكثير من المسلمات في علاقته مع الآخر، ومع الأنظمة والقوانين الحديثة، وأخيرا علاقته المشحونة دوما ضد المرآة.

كان المجتمع بحاجة إلى هذه الأربعين عاما ليعي بأن أفكار ما اتفق على تسميته بمرحلة (الصحوة) غير قابلة للتطبيق! كونها ذات مضمون هش عاجز عن إرساء أسس دولة مدنية حديثة تصبح جزءا من المجتمع الدولي، بقدر ما هي تلاءم مرحلة قبلية عشائرية سابقة.

فالفكر الصحوي لا توجد في أجندته علاقات دبلوماسية ودولية كحتمية تفرضها متطلبات العصر، بل شطر العالم إلى دار حرب ودار سلم، مكتفيا بالثالوث الذي وضحه المفكر الجابري (العقيدة-القبيلة-الغنيمة) بحيث يتحول الآخر إلى موضوع وهدف أبدي للغزوات.

وحتى على مستوى الدولة الحديثة، فهم يرون بكفرية القوانين، ويرفضون المجتمع المدني, ولم يكن داخل مشروعهم مطالبات واضحة بالعدالة الاجتماعية أو التطوير في أنظمة الشفافية والمحاسبية بقدر انشغالهم الكبير بأردية المرأة والحيز الذي تشغله داخل المجتمع....

مع الأسف كنا بحاجة إلى هذه الأربعين عاما كلقاح يحصن الأجيال القادمة من فكر التطرف، ويظهر إفلاس ذلك الفكر.

واشتداد حلكة الليل تكون في ساعات ماقبل الفجر، فهي كي تفرج لابد أن تضيق حلقاتها، هي تماما صيرورة الديلكتيك التاريخي, لابد أن يجمح إلى أقصى الطرف كي يولد نقيضه منه.

كنا بحاجة إلى مرحلة الصحوة كترياق، كلقاح للمجتمعات من داء التطرف، ولكي يبرأ ذلك الجسد المسجى الهائل، ويمتلك مناعته من الكبوات، ويستيقظ لصناعة مستقبله.