في صيف عام 1962، ودع الفرنسيّون الجزائر نهائيّا بعد احتلال دام 130 عاماورغم أنهم غادوروها مجبرين إثر حرب مريرة استمرت سنوات، فإنها ظلت بالنسبة لهم بمثابة الجرح المفتوح النازف من دون انقطاعوالذين ولدوا فيها ليصبحوا كتابا في ما بعد، ظلوا مشدودين إليها .لذلك هي تحضر بقوة في جلّ أعمالهموهذا كان حال ألبير كاموففي روايته"الطاعون"، تحضر الجزائر من خلال مدينة وهران التي داهمها الطاعون لتعيش فواجع يومية تماما مثل تلك الفواجع التي عاشتها في فترة المواجهة بين الجيش والجمعات الأصولية في التسعينات من القرن الماضي. . وفي "الغريب"، هي تحضر من خلال شاطئ تقترف فيه جريمة عبثيةوفيقصّة "المرأة الخائنة"، تمضي الزّوجة الفرنسيّة إلى الصّحراء في حافلة قديمة، يغطّيها الغبار، وتعجّ بالفلاّحين الغلاظ، الكئيبينذات ليلة مرصّعة بالنجوم، تكتشف جمال الكون الذي ظلّ متخفّيا عنها حتى تلك اللّحظة.لكأنّ تلك المرأة هي كامو نفسه الذي اكتشف جمال الجزائر السرّيّ، عكس أولئك المعمّرين الفرنسيّّين الذين كانوا يعتبرون الجزائر بلدا جافّا، وقذرا، غير أنهم يرفضون مع ذلك أن يتركوه حرّا.وفي قصّةالرّجال الصّامتونالذين يجسّدون فقراء الجزائر، تموت إبنة صاحب المعمل الفرنسي بمرض غريب.ويبدو موتها وكأنه عقاب لوالدها الجشع الذي يسلّط عذابا يوميّا على عمّاله المساكينوأمّا قصّة"الضّيففتروي قصّة معلّم فرنسيّ يعمل في مدرسة ريفيّة تقع عند سفح هضبة جرداءوتدور الأحداث خلال الشّتاءوبسبب الثّلج المتهاطل بغزارة، يصعب على التلاميذ القدوم إلى المدرسة، فيظلّ المعلم وحيدا لأيّام طويلةثمّ يأتي عسكريّ فرنسيّ بعربيّ موثوق اليدين، ويطلب من المعلّم تسليمه إلى السّلطات الفرنسيّة في القرية الأخرىوبطبيعة الحال، يخاف المعلّم فيقضي ليلته ساهرا، محاولا أن يجد حلّا للمأزق الذي وقع فيهوفي اليوم التّالي، يمضي المعلّم بصحبة "ضيفه"العربي إلى القرية الأخرىوبعد أن يقطع معه مسافة قصيرة، يطلب منه أن يختار بين اتجاهين:المشرق حيث المدينة والبوليس، والجنوب حيث الحريّة والقبائلإلاّ أن العربيّ يختار أن يتّجه شرقاوعندما يعود المعلّم إلى المدرسة، يجد الجملة التّالية مكتوبة على السبّورة بخطّ غليظ:”لقد سلّمت أخانا إلى البوليس، وسوف تدفع الثّمن غاليا".ويرى أحد النقاد أن هذه القصة تجسّد مأساة كامو أمام المسألة الجزائريّة.فقبل موته في ذلك الحادث العبثيّ في الرّابع عشر من جانفي-يناير 1960، لمُحَ كامو في حين كانت الجزائر لا تزال تنزف دما بسبب تلك الحرب التي كان يحبّ أن يسمّيها "الجريمة الشمسيّة"، إلى أن التطرّف سوف يشكّل خطرا جسيما على الجزائريين مستقبلاو لعل الزمن أثبت صحّة حدسه.

وخلال السنوات الماضية، صدرت العديد من الروايات التي تعكس العلاقة المعقدة التي تربط الفرنسيين بحلمهم المفقود الذي هو الجزائرومؤخرا أصدر الكاتب جان-نوال بانكرازي المولود عام 1949 في قرية صغيرة قرب مدينة سطيف رواية قصيرة حملت عنوان"كنت أرغب في أن أقول لهم إني أحبكم"، وفيها يستعيد ذكرياته قبل أن تجبر عائلته على مغادرة الجزائر في صيف عام 1962. وقبل ذلك كان قد أصدر ثلاث روايات تتطرق إلى نفس الموضوع ففي "مدام أرنول"هو يصف العلاقة الروحية بين طفل وسيدة من منطقة الألزاس خلال الحرب الجزائريةوفي "الإقامة الطويلة"، يتطرق إلى فصول من حياة والده في جبال الأوراس التي اختار الإستقار فيها رغم قسوة طبيعتهاوفي ّالجبلهو يرثي أصدقاء له من الجزائريين والفرنسيين قتلوا خلال الحرب الجزائرية.

ولكي ينسى الجزائر، وجراحها، تنقل جان-نوال بانكرازي كثيرا عبر العالم.فقد عاش في منطقة البحر الكاراييبي، وفي البعض من البلدان الإفريقية، وفي أماكن أخرىإلاّ أن الجزائر ظلت تلاحقه فلم يتمكن من الفكاك منها أبدا.وللتعبير عن ضيقه من هذه الملاحقة المستمرة ، صرح ذات يوم قائلا بإنه لم يعد يتحمل ّالحفر في الماضي البعيد"، ولم يعد يطيق"الحنين المرلأماكن وشخصيات ، ولم يعد بمقدروه استحضار وجوه عرفها في طفولته في قرية صغيرة في جبال الأوراس، أو في مدينة سطيف،وباطنةإلاأن دعوة لحضور مهرجان عنابة السينمائي في عام 2015 كعضو في لجنة التحكيم أ عادته إلى ماضيه ا الجزائري، وفجر ت فيه ذكريات كان يظن أنها انطمست وإلى الأبد.

وفي"كنت أرغب في أن أقول لهم إني أحبكم،يروي جان-نوال بانكرازي تفاصيل عودته إلى "موطنه الأول". ففي عنابة فضل أن يعيش مع الناس البسطاء،ومع الأطفال العاشقين مثله للسينما،ومع العاطلين عن العمل،ومع شعراء يعيشون على الهامشوالأوقات التي أمضاها معهم أعادته إلى طفولته الأولىففي تلك الفترة، كان يعشق السينما، ويحب التردد على قاعة"الكوليزيفي باطنة لمشاهدة أفلام الوستارن،وأفلام شارلي شابلن الذي يعتبرهعبقرية مطلقة"، وأفلام الواقعية الإيطاليةوكان يجمع صور نجوم هوليوود ليزيّن بها جدران غرفتهومع الإطفال الفرنسيين والجزائريين، كان يمضي أوقاتا بديعة في استحضار مشاهد مثيرة من هذا الفيلم أو ذاكوكم كان يحب أن يروي لوالدته أحداثا من الأفلام التي كان يشاهدها.

ويزداد جان-نوال بانكرازب توغلا في الماضي عندما يدعوه أصدقاؤه الجزائريون في عنابة لزيارة القرية القيرة االتي فيها ولد ونشأ عندئذ تتهاطل الذكريات مثل مطر غزير فلا يستطيع لها رداوها الوجوه القديمة تبرز من جديد ليرى والده يرجف رعبا بعد أن غرقت الجزائر في الحرب، وتعددت عمليات التفجير في المقاهي،وفي المطاعم، وفي قاعات السينما، وفي الأحياء الفرنسية في المدن الكبيرة،وفجأة اختفى جيران لهم من الجزائريين ليعلم في ما بعد انهم التحقوا بجبهة التحرير الجزائريةولا يروي جان-نوال بانكرازي ذكريات الماضي دفعة واحدة، بل يتوقف من حين لآخر ليصف مشهدا،أو ليروي حدثا من الحاضروتبدو روايةكنت أرغب في أن أقول لهم إني أحبكمكما لو انها "صرخة حب للحياةرغم كل ما فيها من فواجع،ومن مرارات.