إن سبعة أعوام من عمر ثورة روج آفا- شمال سوريا، التي انطلقت شرارتها الأولى من مدينة كوباني في 19 من تموز 2012، و ما أفرزتها من أحداث و نتائج ليس على المستوى الكردي و السوري بل على المستوى الاقليمي و الدولي من تغيير في المفاهيم و ظهور معادلات جديدة غيرت منحى العلاقات الدولية ومصالحها حتى باتت تمثل المعنى الحقيقي لقيم و مبادئ المتعارف عليها سياسياً و علمياً و تاريخياً من الحرية و الديمقراطية و المساواة و تآخي الشعوب على اساس من العدل و الاحترام المتبادل بعد قرون من سيادة الدولة القومية الواحدة و إلغاء و إقصاء المختلف رغم التعدد و التنوع في الوطن الواحد.

- إن صوابية النهج الذي سارت عليه الإدارة الذاتية في الشمال السوري -رغمالأخطاء والسلوكيات السلبية على المستوى الفردي وحتى الإداري -تقاسبالإنجازات الكبيرة التي حققتها على كافة المستويات، والتغييرات الجذرية في بنية المجتمع الكردي والسوري معاً تلك المتغيرات الايجابية والمعاشة في مناطق الإدارة الذاتية حيث التعايش السلمي بين المكونات السورية التي شهدت وعلى مدى عقود من حكم البعث العروبي أزمة في العلاقات وخلقت حالة من الاستعلاء القومي وإقصاء الآخر لا بل وقمعه ومحاولات تذويبه في قومية السلطة الحاكمة.

- لا بد من التذكير بالأساس الذي تم الاعتماد عليه لتنفيذ ما سبق وأقصدهنا المنظومة الأمنية والدفاعية المتمثلة بوحدات حماية الشعب والمرأة والاسايش التي أسستها الإدارة الذاتية تمكنت من تحقيق انتصارات عسكرية كبيرة على أعتى الأنظمة الإرهابية، وهو ما عجزت عنه دول كالعراق مثلاً، إلى أن أصبحت محل إشادة وإعجاب من القوى الدولية الكبرى، وفرضت عليها التحالف والتعاون الثنائي في مجال مكافحة داعش. ليكون هناك الالاف الشهداء من مدنيين وعسكريين حيث مازالت أرواح الطاهرة تتطاير في أجواء الوطن.

 

عفرين وقساوة المشهد

والحديث عما سبق وعناصره "الإدارة الذاتية-وحدات حماية الشعب" وانتصاراتها وانكساراتها يجدر بالمرء الدقة في القراءة والحيادية البالغة في التحليل العلمي والتوصيف كما هو، لئلا نظلم مرحلة من أهم المراحل في تاريخ الشعب الكردي خاصة ومكونات الشمال السوري عامة، ونكتب التاريخ في سياقها الصحيح.

 

"عفرين" بين المصالح الروسية والاميركية 

لقد اجتمعت في عفرين كل تناقضات العالم ومصالحها:

- الصراع بين أمريكا وروسيا للسيطرة على آسيا الوسطى والتحكم بالطاقة، وتحديدًا النفط والغاز في حوض بحر قزوين واستثمارها.

- نشاء خطوط الأنابيب؛ من أجل نقل طاقة بحر قزوين إلى الأسواق الأوروبيةوالتحكم بثروات تلك المنطقة الغنية. بالإضافة إلى مد خطوط أنابيب الغاز في كازاخستان مثل خط باكو-تبليسي-جيهان؛ بُغية نقل نفط بحر قزوين وغازه للغرب.

- الصراع الروسي الأوكراني ومسألة الغاز والمستحقات الروسية واحتلال القرم من قبل روسيا والتدخل الأوربي والأمريكي في هذه القضية 

- الاتفاقية النووية بين إيران والغرب ومحاولات الدعم الروسي غير المباشر لإيران للتقدم على أمريكا في الاستقطاب الأكبر حيث تريد أمريكا بإزاحة إيران من الساحة السورية وابعادها عن إسرائيل.

- وهنا كانت تركيا تحاول الاستفادة من كل هذه التناقضات والفوز بالنصيب الأكبر من سوريا والتحكم بكل محيطها عبر عدة نقاط:

1- دعمها للكتائب الإرهابية التي تحارب النظام وروسيا وجعلها ورقة ضغط على روسيا والعالم للمقايضات الكبيرة.

2- استغلال والتوظيف الأيديولوجي والتأثير على الإسلام السياسي العربي على أساس الحامي للدين الإسلامي أمام الهجمات الغربية. 

3- تصفية القضية الكردية التي ترهقها منذ عقود، واتخاذ محاربة حزب الاتحاد الديمقراطي الـ PYD الذي تتهمه تركيا بالتعامل مع حزب العمال الكردستاني المصنف ارهابياً حسب التصنيف التركي والغربي وهو ما تنفيه الإدارة الذاتية وحزب الاتحاد زريعة في الحرب على الشعب الكردي المتواجد على امتداد خط الحدود بين سوريا وتركيا.

4- موقعها كعضو في حلف الناتو العدو التاريخي لروسيا التي استطاعت أيضاً استثمار الاختلاف التركي مع الحلف في العديد من النقاط ومحاولاتها ابعاده عن الحلف وبالمقابل تركيا استغلت روسيا لتحقيق أهدافها في سوريا.

 

في ظل كل هذه التعقيدات واللعبة الكبيرة وضمن لاعبين كبار في العالم لا يوقفهم شيء سوى مصالحهم الكبيرة وجدت الادارة الذاتية الديمقراطية في شمال سوريا عامة وعفرين خاصة نفسها للتعامل مع اللعبة رغم عدم امتلاكها لعناصر القوة التي تؤهلها اللعب مع الكبار، ونتيجة للحالة الجديدة والعناصر المعقدة في اللعبة دخلت إدارة روج آفا الشمال السوري حالة من اللاإستقرار في التعامل مع الاحداث بسبب الضغوطات الكبيرة على إدارتها حيث بات من المستحيل أن تتعامل إدارة فتية عمرها أقل من 5 سنوات مع قوى تتحكم وترسم مصير العالم، ورغم ذلك حاولت المستحيل للحفاظ على كل ما حققته عبر السبع سنوات الماضية، لتكون عفرين خسارتها القاسية.

 

اللقاء الأخير واحتلال عفرين 

لم تنقطع الاتصالات بين وحدات حماية الشعب والنظام السوري روسية من أجل البحث في جميع القضايا العالقة بين النظام والشمال السوري إلا أن أي واحدة من الاجتماعات لم تفض بنتيجة، فرغم موقف النظام الايجابي في قضية عفرين إلا أنه كان فاقداً لأي قوة تأثير في المؤامرة الروسية التركية على الشمال السوري عامة وعفرين خاصة.

روسيا دعمت النظام في جميع مواقفه إلا في عفرين فوقفت وبشكل واضح ضد رغبته في بقاء عفرين خارج إطار اتفاقياتها مع تركيا وتأجيل قضيتها إلى مرحلة أخرى، إلا أن الروس هددوا النظام أيضاً وطالبوه بالصمت حيال هذه القضية، ولم يكن أسباب النظام واضحة في اتخاذ هذا الموقف... لكن يبدو أن انشغاله بمعارك أخرى وعدم قدرته على إدارتها كان وراء اتخاذ هذا الموقف.!!! وأكثر من ذلك قام الروس بقتل جميع عناصر الجيش الشعبي الذي جاء إلى عفرين للدفاع عنها عبر إعطاء سمت تواجده في عفرين وقصفه من قبل الطائرات التركية.

 

يبدو ان القرار التركي الروسي بإحتلال عفرين كان متخذاً منذ فترة ليست بالقصيرة وأن رغبة روسيا في اتخاذ هذا القرار كانت أكبر من الرغبة التركية نفسها، لأسباب كثيرة أهمها تحقيق انتصارات سريعة أمام الخصم الأمريكي وفرض أجنداتها في مساومات دولية أو إقليمية في سوريا سيما وأن المناطق السورية الأخرى والتي دخلت هذه المساومات التركية الروسية والقضاء على الفصائل الإسلامية من الجيش الحر التي كانت تحكمها باتت ناضجة كما أن عفرين أصبحت ناضجة لاحتلالها بعدما رسمت روسيا وتركيا جميع الخطط وأمنتا الصمت الدولي.

 

مخطط الغوطة "جنوب دمشق" في عفرين 

يبدو أن ما تم تنفيذه في الغوطة كان مرسوماً بحذافيره لعفرين إلا أن مقاومة وحدات حماية الشعب غيرت الكثير من عناصر المخطط وكانت الخطة الروسية التركية تقتضي بنقل أهالي عفرين إلى مناطق الشهباء وكوباني ومنبج وحتى الجزيرة إلا أن رياح مقاومة عفرين واستمرارها وتشبث المواطنين بأرضهم غيرت اتجاه السفينة الروسية التركية..!! ليكون القرار توجيه ضربة قاتلة للتصورات الكردية وضرب عفرين وتدميرها بكل الوسائل.

تعددت اللقاءات بين الجانب الروسي والنظام من جهة والإدارة الذاتية من جهة ثانية للبحث في حل قضية عفرين بعد التهديدات التركية وانسحاب العناصر الروس من بعض نقاط المراقبة في عفرين وجاء اللقاء وحسب مصادر حيادية مطلعة قبل أيام من بدء الحرب التركية وكتائبها السورية المتحالفة في إحدى القرى القريبة عفرين ولأن القرار الاحتلال متخذاً لم تستطع روسيا ولا النظام فعل شيء حتى فرض على الإدارة الذاتية وحسب نفس المصادر شروط تعجيزية وطلب تنفيذها في مدة قصيرة كتسليم وحدات حماية الشعب لسلاحها الثقيل والخفيف للنظام وانسحابها الكامل من عفرين وانضمام عناصرها إلى الجيش السوري ووقف العمل بكل مؤسسات الإدارة الذاتية وتسليمها للنظام مباشرة.

وكان من الطبيعي منح مهلة للنقاش والبحث فيما تم الحديث فيه حيث كانت الإدارة الذاتية مهتمة إلى درجة القصوى بإبعاد شبح الحرب عن عفرين إلا أنه. !! ولأن قرار الاحتلال التركي لعفرين والحرب على الغوطة كان متخذاً ونهائياً حيث لم يعد هناك مجالاً للنقاش فيه. !! وانسحبت روسيا بشكل غير مباشر من عملية المفاوضات.

 

النظام السوري أضعف من رفض الخطة الروسية

 

بعد طرح الروس شروطها والصمت الذي ساد الاجتماع اقترح النظام تأجيل كل ما يتعلق بعفرين بسبب عدم استعداده لاستلام عفرين باستثناء دخول الجيش السوري مباشرة وانتشاره على الحدود مع تركيا واستمرار العمل في الهيئات والإدارات التابعة للإدارة الذاتية حسب القوانين وأنظمة الدولة السورية على أن يعود طرفا النظام والإدارة الذاتية لمتابع التفاصيل الأخرى بشأن عفرين.

وكان انسحاب الوفد الروسي المفاجئ من الاجتماع وقول كلمته الأخيرة:" احموا أنتم عفرين، فنحن لم نعد نستطيع حمايتها" متجاوزين كل المعايير الأدبية والديبلوماسية.

ولأن قرار الاحتلال قد اتخذ وأن الجيش التركي بات جاهزاً وكتائب الجيش السوري الحر المتعاملة مع تركيا باتت جاهزة عدداً وعتاداً وخططاً تنتظر القرار الروسي التركي بالبدء الذي أعلن عنه فعلاً باختراق أكثر من 70 طائرة تركيا حربية لأجواء سوريا عبر سماء عفرين وتعيد قصة روما و"نيرون" وحرق كل مخالف لاتجاه أردوغان السياسي والديني والمذهبي.

الخطأ الشرعي للإدارة الذاتية

في تاريخ الأمم والشعوب ومسيرتها أخطاء ترتكب تصل إلى حد الجريمة وأخطاء ترتكب في التقدير والقراءة لا يمكننا اعتبارها جريمة بكل المقاييس الجرمية، فقرار شارل لويس بونابرت (نابليون الثالث) يوليو 1870حرب ضد بروسيا (ألمانيا) كان مبنياً على مراهنات خارجية وداخلية إلا أنه خسر الحرب وأكثر من ذلك خسرت فرنسا إقليمي الزاس واللورين (على حدود ألمانيا) لألمانيا وكذلك دفعت غرامة مالية تبلغ 5.000 مليون فرنك وسادت فرنسا أوضاعاً داخلية خطيرة.

إقليم كاتالونيا اختار الاستقلال عن المملكة الاسبانية بناءً على مراهنات سياسيها على القيم الاوربية ومبادئها في الحرية والديمقراطية إلى أنها كان مراهنة خطأ، تخلت أوربا وحكوماتها عن كل قيمها ومبادئها أمام مصالحها الكبيرة مع المملكة الاسبانية.

أكثر من 50 عاماً والفلسطينيون يراهنون على الأنظمة العربية وبمعنى أدق أكثر من 50 خطأ فادحاً يرتكبونه في تاريخ نضالهم.

وهكذا كان حال الإدارة الذاتية تماماً وليس أكثر من ذلك. نحن قلنا في بداية مقالنا إن صوابية النهج تحدده الإنجازات والاعمال تقاس بالنتائج، ونتائج وانجازات الإدارة الذاتية وفي ظل أخطر مراحل التاريخ حيث الكبار في العالم بكل ما يملكونه من أدوات وقوة تعمل في الساحة السورية وكل حسب مصلحته حيث لا مكان للقيم والمعايير الأخلاقية. !! استطاعت هذه الإدارة أن توفق وعلى مدى سبع سنوات بين كل هذه الثوى وتناقضاتها، ووقوعها في فخ المراهنات على المواقف الدولية تجاه عفرين لا تلغي مصداقيتها الديمقراطية والوطنية والأخلاقية وحسب جميع المقاييس والمعايير النقدية للتجربة.

لكن السؤال الأهم هل كانت علاقاتها الدولية ووجودها ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب برعاية أمريكا كافية لأن تراهن بهكذا قضية مصيرية على تلك الدول وخاصة أمريكا والغرب ومن ضمنها روسية التي أوضحا موقفها منذ انسحاب نقاط المراقبة التابعة لجيشها من مناطق عفرين. ؟؟ وهل كان اعتراف العالم وثنائه الدائم لوحدات حماية الشعب لمحاربتها الإرهاب الذي كان يهدد العالم والانتصار عليه كافياً للمراهنة على مواقفها حيال احتلال عفرين، لابل وإعلانها دعمها؟؟ والدعم المعنوي والمادي الذي كان يقدم لها –هل -كانت تؤهله للمراهنة على المواقف الدولية في حماية عفرين. !!! الجواب وحسب القانون السياسي والعسكري والأخلاقي هو:” نعم".

لكن الـ "نعم" هنا كان يجب أن يقترن بالقراءة الأكثر دقة وعلمية للعناصر الدولية والإقليمية والمحلية. !! سيما أن المعروف عن إدارة روجآفا-شمالسورية أنها تقرأ كل شيء ولا تترك شيئاً لا في التاريخ ولا في المستقبل ولا في الواقع. !! اذاً لماذا وكيف أخطأت والجواب جاء على لسان الرئيس المشترك لحركة المجتمع الديمقراطي في برنامج حواري على تلفزيون RONAHI-TV الذي اعترف بأخطاء حصلت واعتذر للشعب على ارتكاب تلك الأخطاء التي قد يقع فيها أعتى الأنظمة العالمية وفضلاً على ذلك كانت الإدارة الذاتية نفسها عبر قياداتها في اجتماعاتهم وأحاديثهم اعترفت بتلك الأخطاء وقيمت الحدث و اعتبرته نكبة كردية سورية لكن علينا ومن باب المنطق أن لا ننسى أن مصالح الدول والحكومات الاقتصادية أكبر كانت أكبر بكثير من قرار مقاومة المخطط التركي الروسي و الدولي.

وأخيراً إن من السطحية والسذاجة لابل من الظلم أن يفكر المرء بأن أسباب احتلال عفرين والانسحاب المفاجئ منها حسب رأي البعض كانت لأسباب تتعلق بالمعايير الأخلاقية والوطنية لوحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية حيث كان بإمكانها فعل ذلك من اليوم الأول دون أن تقاوم 58 يوماً بكل فخر واعتزاز.

ف• كاتب سوري مقيم في الدنمارك