لم تعد الرياضة بشكل عام نوع من أنواع الرفاه للشعوب، بل أداة من أدوات التنافسية العالمية ومظهر من مظاهر القوة الناعمة للدول بشكل عام، وهذه ليست حقيقة انتجتها بطولة كأس العالم لكرة القدم 2018 التي تقام حالياً في روسيا، بل حقيقة يدركها الجميع منذ بدايات الألفية الثالثة تحديداً، حيث باتت الرياضة بشكل عام والبطولات الدولية بشكل خاص مثار اهتمام القادة والدول في مختلف أرجاء العالم.

تحولت الرياضة أيضاً إلى صناعة متشعبة واقتصاد ضخم تسيطر عليه اتحادات قارية ودولية بعضها ـ مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) تفوق قوته ونفوذه منظمات دولية سياسية كبرى، والأمر هنا لا يتعلق بالرياضة فقط بل بالاقتصاد بشكل عام فالبطولات الرياضية باتت واجهة لعرض مجمل عناصر القوة الشامل للدول، من موارد سياحية وتجارية واقتصادية وتنظيمية وبنى تحتية فضلاً عن استعراض بقية عناصر القوة الناعمة للدول وثقافتها وحضارتها وتعزيز تواصل شعبها مع بقية دول العالم عبر القنوات "البصرية" التي لم تعد تنقل المباريات والمنافسات فقط بل هناك ما يشبه "البث الحي" على مدار أيام البطولة من مدن وشوارع وطرقات واحتفاليات تجرى على هامش البطولات.

من هنا لاحظنا جميعاً عمق اهتمام الدولة الروسية بإنجاح بطولة كأس العالم الحالية، وحجم الاستعدادات الهائلة التي سبقت افتتاح البطولة، من اجل إعادة تقديم روسيا إلى العالم واستغلال مناسبة البطولة في تدشين "صورة نمطية" جديدة لروسيا في عيون العالم، انطلاقاً من إدراك مسبق بأن هذه الصورة ستنعكس استراتيجياً في مجالات وقطاعات اقتصادية واستثمارية وتنموية أخرى، بحيث يمكن العمل انطلاقاً من معطيات وفرتها البطولة لتعزيز علاقات روسيا مع شعوب العالم كافة، وربما القفز على معطيات السياسة وخلافاتها وتوتراتها وبناء علاقات مباشرة مع الشعوب.

ولقد لاحظت أن "مونديال روسيا" يثير تساؤلات جوهرية حول مقدرة دولة بحجم قطر على استضافة بطولة بهذا الانتشار والشعبية الكوكبية، فقد لاحظنا أن وجود أكثر من عشرين ألف متفرج فقط في إحدى المباريات قد أغضب "الفيفا" واعتبره "إقبالاً ضعيفاً"، فما بالنا والجميع يدرك تماماً أن كأس العالم المقبلة ربما تدخل تاريخ البطولات في أرقام قياسية تاريخية من حيث تدني مستوى الاقبال الجماهيري، فلا يتصور أن تحظى البطولة المقبلة بنسب مشاهدة تقارب أقل نسبة مشاهدة للبطولة الحالية في روسيا.

صغر المساحة الجغرافية لقطر أيضاً ستضاعف متاعب كأس العالم المقبلة، ولن تجعل هناك مجال لتنظيم جيد مطلقاً، فضلاً عن احتمالية عالية جداً لفقدان السيطرة الأمنية في ظل وجود جماهير تنتمي إلى دول متنافسة في مساحات جغرافية متقاربة للغاية! 

البطولة المقبلة في قطر تفتقر إلى التنوع الثقافي وتنزع سمات البهجة الثقافية والحضارية عن كأس العالم، فلا شيء يمكن متابعته سوى مستطيل أخضر يفترض أن تجرى فيه مباريات، بينما تاريخ كأس العالم حافل بالثقافة والتفاعل الحضاري، فهو مناسبة "فلكلورية" كما ذكرت، وليست رياضية فقط، وهنا أرى أن "الفيفا" لم ينظر إلى مجمل الصورة وقدرات الدول المستضيفة حين صوت لمصلحة استضافة قطر كأس العالم 2022!

ثمة تساؤلات جوهرية أخرى تتعلق بما انتجته السياسة القطرية من الغاز خلال الفترة الأخيرة، فقطر التي تستعد لاستضافة البطولة المقبلة أوقعت نفسها في مقاطعة مع محيطها الجغرافي ولم تعد تمتلك علاقات نشطة سوى مع أنظمة تعاني عزلة دولية، مثل إيران! فكيف لدولة تستعد لاستقبال بطولة بهذا الحجم أن تنجح وألا تتسبب في إحداث سابقة رياضية بإفشال أهم بطولة لكرة القدم في العالم وماهي الضمانات الجدية للنجاح سوى بضعة ملاعب يمكن أن تجد أفضل منها في معظم دول العالم!

كيف لدولة تستعد لاستضافة كأس العالم وتترك لقنواتها التلفزيونية الحبل على الغارب في تصفية الحسابات السياسية واختطاف الرياضة لمصلحة السياسة واتخاذ نتيجة مباراة لكرة القدم ذريعة لكيل النقد والسخرية من دولة كبيرة بحجم ومكانة المملكة العربية السعودية، علماً بأن الجميع يدرك أن الفوز والخسارة مسائل واردة في كرة القدم وأن المسألة لا علاقة لها بالسياسة تماماً، وأن حضور القادة السياسيين للمباريات بات تقليداً سياسياً يعكس مشاركة الشعوب في ارتباطها بهذه الرياضية المحببة، ولا يعني تفسير هذا الحضور في سياقات إعلامية سياسية مبتذلة.

يجب أن يعترف الجميع بخطأ اسناد البطولة المقبلة لقطر، ومن يتابع بطولة روسيا 2018 يدرك تماماً اننا مقبلون على بطولة سيطويها التاريخ في قطر 2022 ما لم يتدارك "الفيفا" هذا الخطأ ويجنب البطولة سيناريو فشل مؤكد بنسبة مائة بالمائة.