عشية الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً، وأعلن الرئيس رجب طيب أردوغان فوزه بها، خاطب أنصاره ومؤيديه قائلاً ومحرضاً ضد خصومه ومنافسيه "هل ستعطونهم صفعة عثمانية غداً؟"! هكذا يستحضر أردغان حقبة طوتها تركيا ويدغدغ بها مشاعر الناخبين بحثاً عن حلم شخصي يريد تحقيقه!

لم يعد أردوغان يخفي نواياه لاستحضار الحقبة العثمانية في السياسات التركية، ولم يعد يحاور ويناور سياسياً حين يتحدث عن رغبته في استعادة تلك الحقبة الاستعمارية، وهذا الأمر كاشف عن طبيعة سياساته وتوجهاته في المرحلة المقبلة. والمؤكد أن فوز الرئيس التركي بنسبة تجاوز النصف بقليل يشير إلى انحسار كبير في شعبيته، ومع ذلك يبدو أردوغان متجاهلاً لكل هذه المؤشرات ويتعامل بفوقية وازدراء مع خصومه ومنافسيه السياسيين في الداخل قبل أن يصدر تلك اللهجة إلى الخارج!

كانت النزعة العثمانية حاضرة بقوة لدى أردوغان منذ بدايات حكمه، وظهرت علناً في قصره الرئاسي الجديد الذي يعتبره معارضوه الأتراك رمزاص لنزعته السلطوية، فالقصر المكون من 1100 غرفة وبني بتكلفة تفوق ستمائة مليون دولار، يجسد رغبات الرئيس في ارتداء عباءة السلاطين العثمانيين والاقتداء بسياساتهم متجاهلاً كل ما حدث طيلة قرن كامل من تحولات هائلة اقليمياً ودولياً!

نعم حقق أردوغان لتركيا نجاحات اقتصادية كبيرة لبلاده ولا أحد يمنكه انكار الحقائق في هذا الشأن، ولكنه بالمقابل بات في السنوات الأخيرة يدمر كل ماحققه بسياسات استبدادية وتدخلات عشوائية في الاقتصاد والسياسات المالية للبلاد، فضلاً عن محاولة توظيف السياسة الخارجية التركية لخدمة أجندته الأيديولوجية الضيقة، التي تجافي التوجهات الأساسية التي ترتكز عليها الدولة التركية الحديثة والسعي للانحراف بها من "الكمالية" العلمانية إلى "الأردوغانية" العثمانية، وهي نزعة تواجه برفض نسبة لا تقل عن نصف الشعب التركي!

لم يتحدث أردوغان لناخبيه عن حقيقة توجهاته ونواياه بل يدغدغ مشاعرهم بالدين تارة، وبالاقتصاد تارة أخرى، في خلط لافت بين الأيديولوجيا والاقتصاد متجاهلاً الحقيقة المهمة القائلة بأن أغلبية معارضيه ينتمون إلى المدن الكبرى التي تشعر بقلق حيال النزعة الاستبدادية لأدروغان.

نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة يعتبرها أردوغان موافقة شعبية على إعلان عودة العثمانية، فقد كان استخدامه لتعبير "الصفعة العثمانية" إعلاناً واضحاً عن نواياه، ما يعني أن العالم أمام تركيا جديدة يتوقع لها أن تحدث تحولات جذرية في توجهاتها الاستراتيجية إقليمياً ودولياً.

الديمقراطية التركية التي يريدها أردوغان تأتي في صيغة عثمانية يتحكم بها رجل واحد يقرر أي شيء في الدولة التركية من دون أي اعتراض لبقية مؤسسات البلاد، وعلى العالم والمنطقة توقع مزيد من العنجهية الأردوغانية ومزيد من التدخلات في شؤون دول عربية مثل سوريا والعراق!

صحيح أن النظام الرئاسي الذي كان موضع اختبار تصويتي شعبي في الانتخابات الأخيرة يضمن للرئيس صلاحيات واسعة مغايرة لما كان سائداً في تركيا منذ تأسيس الجمهورية، ولكن الصبغة الأردوغانية التي صيغ بها النظام الجمهوري الجديد تؤسس لحقبة سلطوية سلطانية وليست جمهورية، وأي مراقب موضوعي محايد يدرك أن الرئيس أردوغان وحزبه كانوا يدفعون باتجاه تمرير هذه الصبغة بغض النظر عن الانتهاكات والتجاوزات والانتقادات الدولية التي تضع حواجز كبيرة الممارسة الديمقراطية النزيهة وبين ماشهدته تلك الانتخابات من تجاوزات وخروقات!

سيبدأ أردوغان فترة رئاسية جديدة يتمتع خلالها بصلاحيات غير مسبوقة بعد الغاء منصب رئيس الوزراء، منها تعيين كبار المسؤولين مثل الوزراء ونواب الرئيس، تعييناً مباشراً، وصلاحيات التدخل في النظام القانوني للبلاد، وسلطة فرض حالة الطوارئ، ما يجعل الصيغة أقرب إلى حكم الفرد الاستبدادي المطلق لا إلى نظام رئاسي مؤسسي حقيقي تتوزع فيه السلطات وتتوازن ضمن معادلات متكافئة تضمن عدم انفراد أي سلطة دستورية بالسلطة منفردة.

الأرجح أن فوز أردوغان بكل ما يمتلك من نزعات وتوجهات حيال الآخرين، يشير إلى مزيد من الاضطراب والتدخلات التركية اقليمياً، فأردوغان سيقلب معادلة السياسة التركية التي سادت في فترات سابقة من "تصفير المشاكل" إلى "اختلاق المشاكل" ويدشن مرحلة تصفية حسابات مع من يعتبرهم خصومه واعدائه في الداخل والخارج، وهذا الأمر يعني صب مزيد من الزيت على نار الأزمات في الشرق الأوسط.