أغلب الردود على مقالي" لا مناص من إعادة الانتخابات في العراق" تمحورت حول: وماذا تجدي هذه الإعادة؛ ما دام من سيقوم بها أو يحركها ويشرف عليها هي نفس الرؤوس السابقة ، أركان العملية السياسية وفرسانها الذين أوصلوا العراقيين وبلادهم إلى هذا الحال من الخراب والتعاسة؟ "عليك أن تطالب برحيلهم وتصفية ما صنعوه من فساد وخراب وفرقة وطنية وإرهاب إلخ..!"

إنها اعتراضات صحيحة وضرورية ، ولكن كيف الخلاص من الحاكمين الفاشلين الحاليين؟

لقد صبر الناس عليهم وعلى ما صنعوه من أوضاع تعيسة مدمرةطويلا، ثم انتفضوا واعتصموا في ساحة التحرير ، فواجهوهم بالهراوات والرصاص والخطف والقتل، حتى دخل عليهم الصدريون واحتووا شعاراتهم ولافتتاهم بجماهيرهم الكبيرة، ولم يقاطعوا الانتخابات بل أقبلوا عليها بشهية عارمة، فأنجبوا "سائرون" المتمسكة اليوم بفوزها المتقدم، وتصدر عنها تحالفات ومواقف وتصريحات متضاربة تتردد بين لغة الثورة والتغيير، ولغة السلطةوالتمسك بالحكم (الأبوي هذه المرة)!

وتحرك الناس في المحافظات الغربية والشمالية ورفعوا مطالبهمالمشروعة لكنهم جوبهوا بالدبابات والرصاص فوجدها الإرهابيون و"داعش" فرصتهم فدخلوا عليها وأفلحوا في شيطنتها ومسخها ( كما يحدث في سوريا اليوم) فانتهت بسحقهم لكن سحقت معهم مدن كبيرة وأناس أبرياء كثر، وتشرد الملايين في أصقاع الأرض كما ضاعت تطلعاتهم وأحلامهم! وبذلك انتهت محاولات التغيير بالقوة الجماهيرية المسالمة!

لم تسقط هذه العملية السياسية السيئة ولا رؤوسها المزمنة لأسباب عديدة: فهي لا تزال تقف خلفها قوى كبيرة بعضها مادية وأخرى معنوية:الأولى أن الأمريكان لا زلوا يعتقدون أنها تمثل وليدتهم الديمقراطية التي عليهم مع الأوربيين احتضانها ورعايتها حتىتقوى وتكون ركيزتهم العتيدة في الشرق الأوسط، وقد شيدوا إلى جانب قصورها أكبر سفاراتهم وقنصلياتهم في العالم! كما أن حكام الملالي في طهران يحرسونها بحجة حماية المذهب الواحد ، بينما هم لا يقصدون سوى مد حدود الإمبراطورية الفارسية إلى شواطئ المتوسط! والأموال المسروقة لا تذهب فقط إلى حسابات أصحابها الكبار بل لتقوية سلطتهم عبر الرشاوى واغناء المريدين والأعوان وصنع المليشيات الحارسة.

ثمة ركيزة معنوية خطيرة لهذه العملية تقوم على الأوهام والتصورات حيث أدخل قادتها في روع الكثير من الشيعة (حتى شريحة من المثقفين ) أن هذه العملية السياسية هي حكم الشيعة وحلمهم المفقودمنذ ليل السقيفة وقد استلموه بإرادة إلهية،وإن سقوطه يعني نهايتهم وفناءهم! ورغم تهافت هذا الزعم وتكشف الواقع أن غالبية الشيعة لا زالوا فقراء معدمين،وإن الذين اغتنوا منهم هم شريحة السياسيين البارزين ومجموعات من رجال الدين يجنون الخمس من أموال الفساد والسحت الحرام . وإن دماء أبنائهم وتضحياتهم ( التي تسفح الآن حتى في سوريا ، وربما اليمن) تذهب قربانا على المذبح الإيراني! فصاروا يعون زيف هذا الادعاء ويعودون لنزعتهم الوطنية، لكن رؤوس السلطة لا زالوا يشحنون في البغضاء الطائفية

حيث هي عكازهم وتعويذتهم للبقاء في مواقعهم!

توقف اليوم الحراك الجماهيري من أجل إسقاطها وتحقيق تغيير سياسي عميق يقوم على بنية متماسكة من الديمقراطية الحقيقية المكفولة بدستور جديد خال من النزعة الدينية والطائفية والعنصرية!

وصار من يطالب بالتغيير يوصم بالإرهاب ويساق إلى السجن بالمادة أربعة إرهاب، أو يصفى من إحدى المليشيات المتكاثرة. 

أي أفق تبقى للتغيير؟ ما الحل؟ بعضهم يمني نفسه بانقلاب عسكري ، و ثمة رؤوس معروفة في السلطة تتحدث عنه بخوف وفزع! ولكن من سيقوم به؟ وهل هو ممكن؟ وماذا تحقق من الانقلابات الكثيرة السابقةلنأمل اليوم بانقلاب آخر؟

عزف أكثرية العراقيين عن المشاركة في الانتخابات. ولو كانوا قد نزلوا كلهم أو نسبة كبيرة منهم لكانوا بقوتهم الهائلة قد فرضوا من يعتقدون أنهم الجديرون والأحق بالقيادة والحكم. ولجعلوا شعاراتهم ومطالبهم برامج حكم وعمل وتغيير نوعي لا مجرد لافتات ومطالب يجري تبادلها على مواقع التواصل الاجتماعي! 

لا يبدو في الأفق حل سوى استنفاد العملية السياسية نفسها كآخر فرصة لها في الوجود علها وفق منطق جدلي "يخرج الحي من الميت" تغير نفسها مرغمة وفق دستورها المتناقض والملغوم! 

الذين قاطعوا الانتخابات مطالبون اليوم بأن يتبنوا حملة المطالبة بانتخابات جديدة تجري بإشراف الأمم المتحدة (رسميا لم يخرج العراق من البند السابع) ، وبرقابة القضاء العراقي رغم الأقاويل والشكوك التي تثار حوله فهو أقل خطرا من أية هيئة خاصة للانتخابات تشكل عادة بالمحاصصة وتكون هي أداة الفاسدين للعبث بالصناديق الانتخابية!

السكون والمقاطعة لا ينتجان حركة ولا حتى صدى،بل يجعل الطرف الآخر يمضي بغنيمته آمنا إلى وكره المحاط بالذئاب والأسوار العالية!